تعليم آخر في شأن اليتامى وأموالهم:
ها هنا تعليم آخر في شأن اليتامى وأموالهم، إِذ يقول سبحانه: (وابتلوا اليتامى حتى إِذا بلغوا النكاح) فإِذا بلغوا سن الرشد الذي آنستم فيه قدرتهم على إِدارة أموالهم والتصرف فيها بنحو معقول فأعطوهم أموالهم: (فإِن آنستم منهم رشداً فادفعوا إِليهم أموالهم) وها هنا نقاط لابدّ من الإِلتفات إِليها.
1 - إنّه يستفاد من التعبير بـ "حتى" أنّه يجب اختبار اليتامى قبل بلوغ سنّ النكاح، وأن يتمّ هذا الأمر بصورة مستمرة ومتكررة حتى يعرف بلوغهم حدّ النكاح ويتبيّن أنّهم بلغوا الحدّ اللازم من الرشد العقلي اللازم لإِدارة الأُمور المالية على الوجه الصحيح.
كما أنّه يستفاد - ضمناً - أنّ المراد من الإِختبار والإِبتلاء هو التربية التدريجية والمستمرة لليتامى، وهذا يعني أن لا تتركوا اليتامى وتهملوهم حتى يبلغوا سن الرشد ثمّ تعمدوا إِلى إِعطائهم أموالهم، بل لابدّ أن تهيئوهم - قبل البلوغ - للحياة المستقلة وذلك بالبرامج التربوية العملية.
وأمّا أنّه كيف يمكن اختبار اليتيم فطريقه هو أن يعطى مقداراً من المال، فيتّجر به ويشتري ويبيع مع نظارة الولي بنحو لا يسلب اليتيم إستقلاله فإِذا تبيّن أنّه قادر على الإِتجار والتعامل كما ينبغي ومن دون أن يغبن، وجب تسليم أمواله
إِليه وإِلاّ فلابدّ أن تستمر تربيته وإِعداده حتى يبلغ تلك الدرجة التي يستطيع فيها أن يستقل بإِدارة شؤونه وتدبير معيشته، وأخذ زمام حياته المستقبلية بيده.
2 - إِنّ التعبير بجملة (إذا بلغوا النكاح) إِشارة إِلى أن الرشد المطلوب هو أن يبلغ اليتيم إِلى درجه القدرة على الزواج، وواضح أن الذي يقدر على الزواج لابدّ أنّه يقدر على تشكيل عائلة، ولا شك أنّ الإِنسان بدون امتلاكه لرأس مال لا يتوصل إِلى أهدافه، ولهذا فإِن بداية الحياة العائلية تتزامن مع بداية الحياة الإِقتصادية المستقلة.
وبعبارة أُخرى أنّ الثروة لا تعطى إِليهم إِلاّ عندما يصلون إِلى البلوغ الجسمي، فيحتاجون إِلى المال بشدّة ويصلون إِلى البلوغ الفكري، ويتمكنون من المحافظة على أموالهم في وقت واحد.
3 - إِنّ التعبير بجملة (آنستم به رشداً) إِشارة إِلى أنّه يجب أن يتأكد من رشدهم، لأنّ الإِيناس بمعنى المشاهدة والرؤية وهذه المادة مشتقة من مادة "الإِنسان" الذي في معانيه ناظر العين وعدستها التي بها تبصر (والرؤية إِنّما تتمّ بالإِستعانة من إِنسان العين - في الحقيقة - ولهذا عبر عن المشاهدة بالإِيناس).
ثمّ أنّه سبحانه قال: (ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا) وهو تأكيد آخر للأولياء بأن لا يسلموا الأموال إِلى اليتامى قبل أن يكبروا بأن يحافظوا على أموال اليتامى ولا يتلفوها أبداً.
ثمّ أنه تعالى يردف هذا التأكيد بقوله: (ومن كان غنيّاً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف) وبهذا أذن الله تعالى للأولياء بأن يأخذوا لأنفسهم من أموال اليتامى لقاء ما يتحملون من أتعاب في حفظها، وحراستها، على أن يراعوا جانب العدل والإِنصاف فيما يأخذونه بعنوان الأُجرة، هذا إِذا كان الولي فقيراً، أما إِذا كان غنيّاً فلا يأخذ من مال اليتيم شيئاً أبداً.
وقد وردت في هذا الصدد كذلك روايات توضح وتبيّن ما أشير إِليه من مضمون الآية.
ومن هذه الآحاديث ما روي عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) إِذ قال: "فذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة، فلا بأس أن يأكل بالمعروف إِذا كان يصلح لهم فإن كان المال يقلي (ولا يستغرق ذلك وقتاً كبيراً) طبعاً فلا يأكل منه شيئاً".(4)
ثمّ يقول سبحانه: (فإِذا دفعتم إِليهم أموالهم فاشهدوا عليهم) لكي لا يبقى أي مجال للإِتهام والتنازع، وهذا هو آخر حكم في شأن الأولياء واليتامى جاء ذكره في هذه الآية.
واعلموا أنّ الحسيب الواقعي هو الله تعالى، والأهم من ذلك هو أن حسابكم جميعاً عنده لا يخفى عليه شيء أبداً ولا يفوته صغير ولا كبير فإِذا بدرت منكم خيانة خفيت على الشهود فإِنّه سبحانه سيحصيها عليكم، وسوف يحاسبكم عليها ويؤاخذكم بها: (وكفى بالله حسيباً).
﴿وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى﴾ اختبروهم قبل البلوغ ﴿حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ﴾ حدا يتأتى منهم النكاح ﴿فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا﴾ عقلا وإصلاح مال ﴿فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ عند تحقق البلوغ والرشد بلا تأخير ﴿وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ﴾ مسرعين ومبادرين كبرهم أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم ﴿وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ عن أكلها ﴿وَمَن كَانَ فَقِيرًا﴾ من أوليائه ﴿فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ بقدر أجرته أو كفايته أو أقلهما ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ﴾ بأنهم تسلموها نفيا للتهمة وفرارا من الخصومة ﴿وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا﴾ محاسبأ فلا تتعدوا حدوده.