ثمّ يضيف القرآن قائلا: إنّه ليس علم الله منحصراً بما تكن القلوب وما تعلن، بل علمه واسع مطلق! (وما من غائبة في السماء والأرض إلاّ في كتاب مبين)(2).
وواضح أن "الغائبة" لها معنى واسع، فهي تحمل في مفهومها كلّ ما خفي عن حسّنا وغاب... وتشمل أعمال العباد الخفية والنيات الباطنية، وأسرار السماوات والأرض وقيام الناس للحساب يوم القيامة، زمان نزول العذاب، وأمثال ذلك.
ولا دليل على أن نفسّر "الغائبة" هنا بواحد من هذه الأُمور المذكورة آنفاً - كما ذهب إليه بعض المفسّرين -.
والمراد بـ "الكتاب المبين" هو اللوح المحفوظ، وعلم الله الذي لا نهاية له، وقد بحثنا هذا الموضوع في ذيل الآية (59) من سورة الأنعام.
ملاحظات
التحقيق في الآيات المتقدمة يدل على أن منكري المعاد من أجل أن يتنصّلوا من عبء الإيمان بالقيامة والمسؤوليات الناشئة عنه، كانوا يتوسلون بثلاثة طرق:
1 - استبعادالعودة للحياة بعد أن يغدو الإنسان تراباً، لإعتقادهم أنّ التراب لا يمكن أن يكون أساساً للحياة!
2 - قدم هذه العقيدة وعدم الجدة فيها.
3 - عدم نزول العذاب على منكري المعاد... لأنّه لو كان حقّاً أن يبتلى المنكرون بالعذاب فلم لا ينزل عليهم!
وقد ترك القرآن الجواب على الإشكالين الأوّل والثاني، لأنّنا نرى بأم أعيننا أنّ التراب مصدر الحياة وأساسها، وكنا في البداية تراباً ثمّ صرنا أحياءاً!
وكون الشيء قديماً لا ينقص من أهميّته أيضاً... لأنّ قوانين هذا العالم الأصيلة ثابتة ومستقرة من الأزل حتى الأبد... وفي الأصول الفلسفية والمسائل الرياضيّة والعلوم الأُخَر أصول كثيرة ثابتة... فَهَل كون امتناع اجتماع النقيضين قديماً، أو جدول ضرب فيثاغورس قديماً، دليلا على ضعفه؟! وإذا رأينا العدل حسناً والظلم سيئاً منذ القِدَم، ولا يزال كذلك، فهل هو دليل على بطلانه... فكثيراًما يتفق أن القِدَم دليل على الأصالة.
وأمّا في شأن الإشكال الثالث، فيجيب القرآن: ألاّ تعجلوا.. فعدم نزول العذاب من لطف الله، فهو يمهلكم ولا يعذبكم عاجلا، لكن إذا جاء عذابه فلا مفرّ منه.
﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ﴾ خافية فيهما وهما اسمان لما يغيب ويخفى كالذبيحة أو صفتان والتاء للمبالغة كالراوية ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ وهو اللوح.