التّفسير
الوجه الحقيقي لأفعال البشر:
لقد ذكرنا في مطلع هذه السّورة أن آيات هذه السورة نزلت لبناء مجتمع صالح وسليم، ولهذا تسعى آياتها في تطهير المجتمع من الرواسب الجاهلية وما يتبقّى في نفوس بعض المسلمين الحديثي العهد بالإِسلام من العادات السيئة أوّ، لتتهيأ الأرضية لإِقامة ذلك المجتمع الصالح المنشود.
وأية عادة ترى أقبح من أكل أموال اليتامى؟ ولهذا إبتدأت هذه السورة بعبارات شديدة النكير على من يتصرف في أموال اليتامى تصرفاً غير مشروع، وغير صحيح، والآية الحاضرة هي أوضح هذه العبارات.
تقول هذه الآية: (إِنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظُلماً إِنّما يأكلون في بطونهم ناراً).
ولقد ورد نظير هذه العبارة في موضع آخر من القرآن الكريم وذلك في شأن الذين يكتمون الحق، ويحرفون الكلم عن مواضعها لتحقيق بعض المكاسب المادية الشخصية إذ يقول سبحانه عنهم: (إنّ الذين يكتمون ما أنزل الله من يالكتاب، ويشترون به ثمناً قليلا أُولئك ما يأكلون في بطونهم إلاّ النّار)(1).
ثمّ أنّه سبحانه يقول في بيان نتيجة أكل أموال اليتامى: (وسيصلون سعيراً).
و"يصلى" من "الصلى" بمعنى الدخول في النار والإِحتراق بلهيبها، وأمّا "السعير" فبمعنى النار المشتعلة.
ويقصد القرآن من هذه الجملة إِنّ الذين يأكلون أموال اليتامى مضافاً إِلى أنّهم يأكلون النار - في الحقيقة - في هذه الدنيا سيدخلون عمّا قريب ناراً مشتعلة الأوار وحارقة اللهب في الدار الآخرة.
ويستفاد من هذه الآية أن لأعمالنا مضافاً إِلى وجهها الظاهري وجهاً واقعياً أيضاً، وجهاً مستوراً عنّا في هذه الدنيا، لا نراه بعيوننا هنا، ولكنّه يظهر في العالم الآخر، وهذا الأمر هو ما يشكل مسألة تجسم الأعمال المطروحة في المعتقدات الإِسلامية.
إِنّ القرآن يصرح في هذه الآية بأنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظُلماً وجوراً، وإِن كان الوجه الظاهري لفعلهم هذا هو الأكل من الأطعمة اللذيذة الملونة، ولكن الوجه الواقعي لهذه الأغذية هو النار المحرقة الملتهبة، وهذا الوجه هو الذي يظهر ويتجلّى على حقيقته في عالم الآخرة.
إِنّ بين الوجه الواقعي للعمل والكيفية الظاهرية للعمل تناسباً وتشابهاً دائماً، فكما أن أكل مال اليتيم وغصب حقوقه يحرق فؤاد اليتيم، ويؤذي روحه، فكذا يكون الوجه الواقعي للعمل ناراً محرقة.
إِنّ الإِنتباه إِلى هذا الأمر (أي الوجه الحقيقي الواقعي لكل عمل) خير رادع للذين يؤمنون بهذه الحقائق، كيما لا يرتكبوا المعاصي ولا يقترفوا الذنوب، فهل يوجد ثمّة من يحب أن يأخذ بيديه قبسات من النار، ويضعها في فمه ويبتلعها؟
إِنّه من غير الممكن - والحال هذه - أن يقدم المؤمنون على أكل مال اليتيم ظلماً، ولو أنّنا وجدنا ثمّة من لا يقدم على هذا الفعل، بل ولا يفكر في المعصية أبداً (كالأولياء)، فلأنهم يرون - بفضل ما لديهم من الإِيمان والعلم، وما حصلوا عليه من تربية خلقية - حقائق الأفعال البشرية ووجوهها الواقعية، فلا يفكرون يفي إقتراف هذه الأعمال السيئة، فض عن الهمّ باقترافها.
إِنّ الطفل الجاهل هو الذي يمكن أن يسحره ويجذبه جمال الجذوات المتقدمة وألسنة اللهب المندفعة منها فيمد يده إِليها، ولكن الإِنسان العاقل الذي جرب حرارة النار وذاق ألمها، كيف يمكن أن يفكر يوماً بذلك.
هذا ولقد وردت أحاديث كثيرة تنهى بشدّة عن أكل مال اليتيم والعدوان على حقوقه، وتؤكد على أنّها كبيرة موبقة، بل وتعتبر أبسط الأعمال من هذا يالنوع مشمو لهذا الحكم الصارم وموضوعاً لهذه العقوبة القاسية.
ففي حديث عن الإِمام الصادق أو الإِمام الباقر(عليه السلام) لما سئل في كم يجب لأكل مال اليتيم من النار؟ قال: في درهمين(2).
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى﴾ ظالمين أو على وجه الظلم ﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ﴾ ملئها ﴿نَارًا﴾ لأن ذلك يكون نارا في القيامة أو ما يجر إلى النار أو يأكلونها يوم القيامة ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ بفتح الياء وضمها.