التفسير
الشّرارة الأُولى للوحي:
نصل الآن - إلى المقطع السابع - من هذه القصّة.. لا يعلم أحد - بدّقة - ما جرى على موسى في سنواته العشر مع شعيب(1)، ولا شكّ أن هذه السنوات العشر كانت من أفضل سنوات العمر لموسى(ع)سنوات عذبة هادئة، سنوات هيأته للمسؤولية الكبرى.
في الحقيقة كان من الضروري أن يقطع موسى(ع) مرحلة عشر سنين من عمره في الغربة إلى جانب النّبي العظيم شعيب، وأن يكون راعياً لغنمه; ليغسل نفسه ممّا تطبّعت عليه من قبل أو ما قد أثرت عليه حياة القصر من خلق وسجية.
كان على موسى(ع) أن يعيش إلى جوار سكنة الأكواخ فترةً ليعرف همومهم وآلامهم، وأن يتهيأ لمواجهة سكنة القصور.
ومن جهة أُخرى كان موسى بحاجة إلى زمن طويل ليفكر في أسرار الخلق وعالم الوجود وبناء شخصيته.
فأيُّ مكان أفضل له من صحراء مدين، وأفضل من بيت شعيب؟!.
إنّ مسؤولية نبي من أولي العزم، ليست بسيطة حتى يمكن لكل فرد أن يتحملها، بل يمكن أن يقال: إنّ مسؤولية موسى(ع) - بعد مسؤولية النّبي محمّد(ص) - من بين الأنبياء جميعاً، كانت أثقل وأهم، بالنظر لمواجهته الجبابرة على الأرض، وتخليص أمّة من أسرهم، وغسل آثار الأسر الثقافي من أدمغتهم.
نقرأ في "التوراة" وفي بعض الروايات الإسلامية - أيضاً - أنّ شعيباً قرر تكريماً لأتعاب موسى وجهوده معه أن يهب له ما تلده الأغنام في علائم خاصة، فاتفق أن ولدت جميع الأغنام أو أغلبها - في السنة الذي ودّع فيها موسى شعيباً - أولادها بتلك العلائم التي قررها شعيب(2)، وقدمها شعيب مع كامل الرغبة إلى موسى.
ومن البديهي أنّ موسى(ع) لا يقنع في قضاء جميع عمره برعي الغنم، وإن كان وجود "شعيب" إلى جانبه يعدّ غنيمة كبرى.
فعليه أن ينهض إلى نصرة قومه، وأن يخلصهم من قيود الأسر، وينقذهم من حالة الجهل وعدم المعرفة.
وعليه أن ينهي وجودالظلمة وحكام الجور في مصر، وأن يحطّم الأصنام، وأن يجد المظلومون العزة بالله معه، هذا الإحساس كان يدفع موسى للسفر إلى قومه.
وأخيراً جمع موسى أثاثه ومتاعه وأغنامه وتهيأ للسفر.
ويستفاد ضمناً من التعبير بـ "الأهل" التي وردت في آيات كثيرة في القرآن أن موسى(ع) كان عنده هناك غير زوجته ولدٌ أو أولاد، كما تؤيد الرّوايات الإسلامية هذا المضمون، وكما صرّح بهذا المعنى في "التوراة" في سفر الخروج، وإضافةً إلى كل ذلك فإنّ زوجته كانت حاملا أيضاً.
وعند عودته من مدين إلى وطنه أضاع الطريق، ولئلا يقع أسيراً بيد الظلمة من أهل الشام اختار طريقاً غير مطروق.
وعلى كل حال فإنّ القرآن يقول في أوّل من آية هذا المقطع: (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله انس من جانب الطور ناراً) ثمّ التفت إلى أهله و(قال لأهله امكثوا إنّي آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النّار لعلكم تصطلون)أي (تتدفؤون).
"آنست": مشتقّة من مادة "إيناس" ومعناها المشاهدة والرؤية المقترنة بالهدوء والراحة.
"جذوة" هي القطعة من النّار، وقال بعضهم: بل هي القطعة الكبيرة من الحطب.
ويستفاد من قوله (لعلي آتيكم بخبر) أنّه كان أضاع الطريق، كما يستفاد من جملة (لعلكم تصطلون) أن الوقت كان ليلا بارداً.
ولم يرد في الآية كلامٌ عن حالة زوجة موسى، ولكن المشهور أنّها كانت حاملا - كما في كثير من التفاسير والرّوايات - وكانت تلك اللحظة قد أحست بالطلق وألم الولادة.. وكان موسى قلقاً لحالها أيضاً.
﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ﴾ أوفى الأجلين ﴿وَسَارَ بِأَهْلِهِ﴾ امرأته بإذن أبيها إلى الشام أو مصر ﴿آنَسَ﴾ بصر ﴿مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ﴾ عن الطريق وكان قد ضله ﴿أَوْ جَذْوَةٍ﴾ قطعة أو شعلة ﴿مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ تستدفئون بها.