ثمّ تشير الآية الثّالثة إلى المراحل المدهشة والمثيرة لتدرّج النطفة في مراحلها المختلفة، واتّخاذها شكلا معيّناً في كلّ منها في ذلك القرار المكين، حيث تقول: إنّنا جعلنا من تلك النطفة على شكل قطعة دم متخثّر (علقة) ثمّ بدّلناها على شكل قطعة لحم ممضوغ (مضغة)، ثمّ جعلنا من هذه المضغة عظاماً، وأخيراً ألبسنا هذه العظام لحماً: (ثمّ خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً).
هذه المراحل الأربعة المختلفة مضافاً إلى مرحلة النطفة تشكّل خمس مراحل، كلّ منها عالم عجيب بذاته مليء بالعجائب بحثت بدقّة في علم الجنين، وأُلّفت بصددها كتب وبحوث عميقة في عصرنا، إلاّ أنّ القرآن تكلّم عن هذه المراحل المختلفة لجنين الإنسان، وبيّن عجائبه يوم لم يولد هذا العلم ولا يكن له أثر.
وفي الختام أشارت الآية إلى آخر مرحلة والتي تعتبر - في الحقيقة - أهمّ مرحلة في خلق البشر، بعبارة عميقة وذات معنى كبير (ثمّ أنشأناه خلقاً آخر) و (فتبارك الله أحسن الخالقين).
مرحباً بهذه القدرة الفريدة، التي خلقت في ظلمات الرحم هذه الصورة البديعة، وصاغت من قطرة ماء كلّ هذه الاُمور المدهشة.
طوبى لهذا العلم والحكمة والتدبير، الذي خلق في هذا الموجود البسيط كلّ هذه القابليات والجدارة.
تعالى الله فقد تجلّت قدرته فيما خلق.
وجدير بالذكر أنّ كلمة "الخالق" مشتقّة من "الخلق" وتعني بالأصل التقدير(2)، حيث تطلق هذه الكلمة عندما يراد تقطيع قطعة من الجلد فينبغي على الشخص أن يقيس أبعاد القطعة المطلوبة ثمّ يقطعها، فيستخدم لفظ "الخلق" بمعنى التقدير، لأهميّة تقدير أبعاد الشيء، قبل قطعه.
أمّا عبارة (أحسن الخالقين) فتثير هذا التساؤل: هل يوجد خالق غير الله؟!
وضع بعض المفسّرين تبريرات لهذه الآية في وقت لا حاجة فيه لهذه التبريرات، لأنّ كلمة "الخلق" بمعنى التقدير والصنع، ويصحّ ذلك بالنسبة لغير الله، إلاّ أنّ هناك إختلافاً جوهرياً بين الخلقين ... يخلق الله المواد وصورها، بينما يصنع الإنسان أشياءه ممّا خلق الله، فهو يغيّر صورها.
كمن يبني داراً حيث يستخدم مواداً أوّلية كالجصّ والآجر، أو يصنع من الحديد سيارة أو ماكنة.
ومن جهة أُخرى لا حدود لخلق الله (الله خالق كلّ شيء) سورة الرعد الآية (16) في وقت نجد ما صنعه الإنسان محدوداً جدّاً، وفي كثير من الأحيان يجد الإنسان فيما خلقه هو نقصاً يجب سدّه فيما بعد، إلاّ أنّ الله يبدع الخلق دون أي نقص أو عيب.
ثمّ إنّ قدرة الإنسان على صنع الأشياء جاءت بإذن من الله، حيث كلّ شيء في العالم يتحرّك بإذن الله، حتّى الورق على الشجر، كما نقرأ في سورة المائدة الآية (110) عن المسيح (ع) (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني).
﴿ثُمَّ خَلَقْنَا﴾ صيرنا ﴿النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾ دما جامدا ﴿فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً﴾ قطعة لحم ﴿فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ﴾ جمعت لاختلافها شكلا وصلابة ووحدت في قراءة ﴿لَحْمًا﴾ أثبتناه عليها ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ بنفخ الروح فيه وثم في الموضعين لتراخي الرتبة ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ المقدرين.