وآخر صفة ممتازة بيّنها القرآن في شأنهم قوله: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه).
ولم يردّوا الجهل بالجهل واللغو باللغو، بل (قالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم).
فلاتحاسبون بجريرة أعمالنا، ولا نُحاسب بجرمكم وجريرة أعمالكم، ولكن ما أسرع ما سيجد كلٌ منّا نتيجة عمله.
ثمّ يضيف القرآن في شأنهم حين يواجهون الجاهلين الذين يتصدون لإثارة المؤمنين باللغو وما شاكله، حيث يقولون: (سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين).
فلسنا أهلا للكلام البذيء، ولا أهلا للجهل والفساد، ولا نبتغي ذلك، إنّمانبتغي العلماء وأصحاب الضمائر الحيّة والعاملين المؤمنين الصادقين.
وعلى هذا فبدلا من أن يهدروا قواهم في مواجهة الجاهلين عُمي القلوب وأهل الكلام البذي، يمرون عليهم كراماً ليؤدوا أهدافهم ومناهجهم الأساسية.
الجدير بالذكر أنّ هؤلاء حين يواجهون الجاهلين، لا يسلّمون عليهم سلام تحية واستقبال، بل سلام وداع.
ملاحظة!
القلوب المهيّأة للإيمان:
رسمت الآيات المتقدمة للقلوب التي تقبّلت بذور الإيمان رسماً جميلا وبليغاً.
فهي ليست من نسيج الأشخاص الانتهازيين الذين ملئت قلوبهم من التعصب والجهل، والكلام البذيء السيء الفارغ، والبخل والحقد، وما إلى ذلك!!.
إنّ هؤلاء العظماء من الرجال والنساء حطموا قبل كلّ شيء القيود التي فرضها التقليد الأعمى، ثمّ أصغوا بكلّ دقّة إلى نداء التوحيد، وحين وجدوا الدلائل الحقة بقدر كاف استجابوا له!.
ولا شكّ أن على هؤلاء أن يدفعوا ثمناً غالياً، لأنّهم خرجوا عن طوق التقليد الأعمى وحطموا أغلاله، وتحرروا عن محيطهم المنحرف، وعليهم أن يتحملوا الكثير من المشاكل والمتاعب في هذا السبيل ولكنّهم يتمتعون بصبر واستقامة في سبيل هدفهم الكبير ما يعينهم على تحمل تلك الشدائد والمصاعب.. فهؤلاء ليسوا حاقدين، ولا يردون السوء بالسوء، ولا هم بخلاء ولا خسيسون، ليجعلوا المواهب الإلهية خاصة بهم!.
إنّهم أناس عظام بعيدون عن الكذب والإنشغال غير الصحيح، والكلامالفارغ الركيك، والمزاح وغيره.
لهم ألسنة طيبة وقلوب أطيب، ولا يضيعون طاقاتهم في الردّ على الجهلاء.. بل في كثير من الأحيان يفضلون السكوت على الكلام والردّ على الجهّال!.
ويفكرون في أعمالهم ومسؤولياتهم، ويمضون كأنهم الظماء إلى النبع.
الظماء إلى العلم والمتشوّقون لحضور مجالس العلماء والفقهاء.
أجل هؤلاء العظام هم الذين يستطيعون أن يستوعبوا رسالة الإيمان في نفوسهم، ليؤتوا أجرهم.. لا مرّة واحدة، بل يؤتيهم الله أجرهم مرّتين بما صبروا!.
هؤلاء أمثال سلمان الفارسي والنجاشي وبحيرا الراهب الذين هم في خط واحد وفي جبهة واحدة، والذين بذلوا جهداً وقاوموا أنواع الصعاب ليصلوا إلى معنى "الإيمان".
ومن الطريف أنّنا نقرأ حديثاً للإمام الصادق(ع) في هذا الصدد يقول: "نحن صُبر وشيعتنا أصبر منّا وذلك أنا صبرنا على ما نعلم وصبروا على ما لا يعلمون" تأملوا لو أن شخصين من المؤمنين توجها إلى ميدان الجهاد، أحدهما يعلم بانتهاء الأمر وأن عاقبة جهاده النصر، والآخر لا يعلم، ألا يكون صبر الثّاني أكثر من صبر الأول؟!.
أو نقول - مثلا - أنّ القرائن تدل على أن كلا منهما سيشرب من كأس الشهادة، لكن أحدهما يعلم ما في شهادته من أسرار خفية وماذا ستحرك من أمواج على مدى الأعصار والقرون المتمادية، وأنّه سيكون أسوة وقدوة للأحرار... أمّا الثّاني فلا يعرف شيئاً عن ذلك، فلا شك أن الثّاني أصبر من الأوّل في هذا الصدد.
وفي حديث آخر ورد في تفسير علي بن ابراهيم قال: "اللغو" الكذب، "اللهو" الغناء، والمعرضون عن اللغو و"المتقون" هم الأئمّة(ع) يعرضون عنذلك كلّه(7).
وواضح أنّ الحديثين من قبيل المصداق البارز، وإلاّ فإنّ مفهوم "اللغو" أوسع ويشمل غير ما ذكرنا، و"المعرضون عن اللغو" أيضاً هم جميع المؤمنين الصادقين، وإن كان الأئمّة(ع) في طليعتهم!
﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ﴾ السفه ﴿أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ حلما ﴿وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ متاركة لهم أو كلمة حلم ﴿لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ لا يزيد مخالطتهم.