ثمّ توجه إبراهيم إلى المشركين (وقال إنّما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودّة بينكم في الحياة الدنيا) ولكن هذه المودّة والمحبّة تتلاشى في الآخرة (ثمّ يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النّار ومالكم من ناصرين).
كيف تكون الأوثان أساساً للمودّة بين عبدة الأوثان؟!
هذا السؤال يمكن الإجابة عليه من عدّة طرق:
الأوّل: أن عبادة الصنم أو الوثن كانت رمزاً للوحدة لكل قوم ولكل قبيلة، لأنّ كل جماعة اختارت لنفسها وثناً، كما ذكروا في شأن أصنام الجاهلية، إذ كان كل صنم يعود لقبيلة من القبائل العربية، فصنم "العزّى" كان لقريش، و"اللاّت" كان خاصاً بثقيف، أمّا "منات" فكان خاصاً بالأوس والخزرج!.
الثّاني: أن عبادة الأوثان تربط بينهم وبين اسلافهم وغالباً ما كانوا يعتذرون بمثل هذا العذر ويقولون: إنّ هذه الأوثان كان عليها السلف ونحن نتبع السلف ونمضي على دين آبائنا.
ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ سراة(2) الكفار كانوا يدعون أتباعهم إلى عبادة الأوثان، وكان هذا الأمر بمثابة "حلقة الاتصال" بين السراة والأتباع.
ولكن هذه العلائق والوشائج والإرتباطات الخاوية تتقطع جميعها يوم القيامة، وكل فرد يلقي التبعة والذنب على رقبة الآخر، ويلعنه ويتبرأ.
منه ومن عمله، حتى المعبودات التي كانوا يتصورون أنّها الوسيلة إلى الله، وكانوا يقولون في شأنها (ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زلفى)، (3) - تتبرأ منهم.
وكما يصوّر القرآن هذه الحالة في سورة مريم الآية 82 يقول: (كلاّ سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً).
فعلى هذا، يكون المراد من قوله تعالى: (يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً) هو أنّهم يتبرأ بعضهم من بعض في ذلك اليوم، وما كان أساساً لعلاقة المودة الكاذبة في الدنيا يكون مدعاة للعداوة والبغضاء في الآخرة.. كما يعبّر القرآن عن ذلك في الآية (67) من سورة الزخرف فيقول: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلاّ المتقين).
ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ هذا الحكم غير مختص بعبدة أوثان، بل هو لجميع أُولئك الذين اختاروا "إماماً باطلا" لأنفسهم، فاتبعوه وتعاهدوا معه على المودة، ففي يوم القيامة يكونون أعداءً فيما بينهم، ويتبرأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضاً.
(4) في حين أنّ علاقة المحبّة بين المؤمنين قائمة على أساس التوحيد وعبادة اللّه وإطاعة أمر الحق في هذه الدنيا وهذه العلاقة سيكتب لها الدوام، وفي الآخرة تكون أكثر تماسكاً.. حين إنّه يستفاد من بعض الروايات أنّ المؤمنين يستغفر بعضهم لبعض ويتشفع بعضهم لبعض في يوم القيامة.. في وقت يتبرأ فيه المشركون بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضاً(5).
﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي لتوادوا بينكم لاجتماعكم عليها ﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا﴾ أي يقوم التعادي والتلاعن بين العبدة أو بينهم وبين أوثانهم ويكونون عليهم ضدا ﴿وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾ يدفعونها عنكم.