قال بعض المفسّرين: إنّ المراد من جملة (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب) هو تشبيه نزول القرآن على النّبي محمّد(ص) أيّ كما أنزلنا كتباً من السماء على الأنبياء الماضين، فكذلك أنزلنا إليك الكتاب!.
إلاّ أنّ التّفسير السابق يبدو أكثر دقّة، وإن كان الجمع بين التّفسيرين ممكناً أيضاً.
ثمّ يضيف القرآن الكريم: (والذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به) ويعتقدون بصدقه.. إذ أنّهم وجدوا علائمه في كتبهم، كما أن محتواه من حيث الأصول العامّة والكلية منسجم مع كتبهم!.
ومن المعلوم أن جميع أهل الكتاب (اليهود والنصارى) لم يؤمنوا بنبوّة محمّد(ص) "نبي الإسلام" فتكون هذه الجملة في خصوص تلك الجماعة المؤمنة منهم، والتي تبتغي الحق دون تعصب، فتكون جديرة أن يطلق عليها "أهل الكتاب".
ويضيف القرآن بعدئذ: (ومن هؤلاء من يؤمن به) (3) أي أهل مكّة والمشركون العرب.
ثمّ يقول القرآن في كفر الطائفتين من اليهود والنصارى (وما يجحد بآياتنا إلاّ الكافرون).
ومع الإلتفات إلى أنّ مفهوم الجحود، هو أن يعتقد الإنسان بشيء بقلبه وينكره بلسانه، فإنّ مفهوم الجملة المتقدمة أن الكفار يعترفون في قلوبهم بعظمة هذه الآيات، ويرون علامات الصدق عليها، ومنهج النّبي و طريقته وحياته النقية، وأن أتباعه هم المخلصون، ويعدّون كل ذلك دليلا على أصالته، إلاّ أنّهم ينكرون ذلك عناداً وتعصباً، وتقليداً أعمى لأسلافهم ولآبائهم، ولحفظ منافعهم الشخصية.
وعلى هذا فإنّ القرآن يحدد مواقف الأُمم المختلفة إزاء هذا الكتاب ويصنفهم إلى قسمين:
فقسمٌ هم أهل الإيمان، سواءً من علماء اليهود والنصارى، أو المؤمنين بصدق، أو المشركين العطاشى إلى الحقّ الذين عرفوا الحق فتعلقت قلوبهم به.
وقسم آخر هم المنكرون المعاندون، الذين رأوا الحق إلاّ أنّهم أنكروه وأخفوا أنفسهم عنه كالخفاش، لأنّ ظلمة الكفر كانت جزءاً من نسيج وجودهم، فهم يستوحشون من نور الإيمان.
وممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّ هذا القسم - أو هذا الطائفة - كانوا كفرةً من قبل، ولكن التأكيد على كفرهم ممكن أيضاً، وذلك لأنّهم لم تتمّ الحجّة عليهم من قبل، ولكنّهم بعد أن تمّت عليهم الحجّة، فقد أصبحوا كافرين كفراً حقيقتاً، وحادوا بعلمهم واطلاعهم عن الصراط المستقيم، وخطوا في دروب الضلال!.
ثمّ يضيف القرآن مشيراً إلى علامة أُخرى من علائم حقانية دعوة النّبي(ص)الجلية والواضحة، وهي تأكيدٌ على محتوى الآية السابقة، فيقول: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون) وقالوا إنّ ما جاءنا به هذا النّبي هو حصيلة مطالعاته لكتب الماضين.
ومعنى هذه الآية أنّك لم تذهب إلى مدرسة قط، ولم تكتب من قبل كتاباً قط، لكّنك باشارة من وحي السماء أصبحت تعرف المسائل أفضل من مئة مدرس!.
كيف يمكن أن يُصدق أن شخصاً لم يقرأ كتاباً ولم ير أستاذاً ولا مدرسةً، أن يأتي بكتاب يتحدى به جميع البشر أن يأتوا بمثله، فيعجز جميعهم عن الإتيان بما طلب.
أليس هذا دليلا على أن قوّتك تستمدّ من قوة الخالق غير المحدودة، وأن كتابك وحي السماء ألقاه الله إليك؟!
وينبغي الإشارة إلى أنّه لو سأل سائل: من أين نعرف أن النّبي(ص) لم يذهب إلى مدرسة قط؟!.
فنجيب أنّه(ص) قد عاش في بيئة المثقفون والمتعلمون فيها معدودون ومحدودون... حتى قيل أن ليس في مكّة أكثر من سبعة عشر رجلا يجيدون القراءة والكتابة، ففي مثل هذا المحيط وهذه البيئة، لو قدّر لأحد أن يمضي إلى المدرسة فيتعلم القراءة والكتابة، فمن المستحيل أن يكون مجهولا، بل يكون معروفاً في كل مكان.
كما يعرف الناس أستاذه ودرسه أيضاً.
فكيف يمكن لمثل هذا الشخص أن يدعي أنّه نبيّ صادق ومع ذلك يكذبهذه الكذبة المفضوحة والمكشوفة؟ خاصة أن هذه الآيات نزلت في مكّة، مهد نشأة النّبي(ص) وكذلك في قبال الأعداء الألدّاء الذين لا تخفى عليهم أقل نقطة ضعف!!.
﴿وَكَذَلِكَ﴾ الإنزال ﴿أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ القرآن مصدقا لسائر الكتب المنزلة ﴿بِالَّتِي فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ كابن سلام أو أمثاله أو من تقدم زمن النبي من أهل الكتاب ﴿وَمِنْ هَؤُلَاء﴾ من أهل مكة أو ممن عاصره (صلى الله عليه وآله وسلّم) من أهل الكتاب ﴿مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا﴾ مع وضوحها ﴿إِلَّا الْكَافِرُونَ﴾ المصممون على الكفر.