لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وفي الآية التالية علامة أُخرى أيضاً على حقانية القرآن، إذ تقول: (بل هو آيات بيّنات في صدورالذين أوتوا العلم). والتعبير بـ"الآيات البينات" كاشف عن هذه الحقيقة وهي أن دلائل حقانية القرآن تتجلى بنفسها عياناً، وتشرق في أرجائه، فدليلها معها. وفي الحقيقة، إنّها مثل الآيات التكوينية التي تجعل الإنسان يذعن بحقيقتها عند مطالعتها دون حاجة إلى شيء آخر، هذه الآيات التشريعية - أيضاً - من حيث ظاهرها ومحتواها كذلك، إذ هي دليل على صدقها. ثمّ بعد هذا كلّه، فإنّ أتباع هذه الآيات وطلابها المشدودة قلوبهم إليها هم أولوا العلم والإطلاع، بالرغم من أن أيديهم خالية وأرجلهم حافية!. وبتعبير أوضح: إنّ واحداً من طرق معرفة أصالة مذهب ما دراسة حال المؤمنين به، فإذا كان الجهال المحتالون قد التفوا حول الشخص، فهو أيضاً من نسيجهم، ولكن إذا كان من التفّ حول الشخص هم الذين امتلأت صدورهم بأسرار العلوم وهم أوفياء له، فيكون هذا الأمر دليلا على حقانية ذلك الشخص، ونحن نرى أن جماعة من علماء أهل الكتاب، ورجالا متقين أمثال أبي ذر وسلمان والمقداد وعمار بن ياسر، وشخصية كبيرة كعلي بن أبي طالب(ع)، هم حماة هذا المبدأ. وفي روايات كثيرة منقولة عن أهل البيت(ع)، إنّ المراد بالذين أوتوا العلم هم الأئمّة من أهل البيت(ع) وطبعاً... فليس هذا المعنى منحصراً فيهم، بل هم المصداق الجلي لهذه الآية(4). وإذا ما لاحظنا أن بعض الرّوايات تصرّح أنّ المراد من هذه العبارة المتقدمة هم الأئمّة(ع)، فإنّ ذلك في الحقيقة إشارة إلى المرحلة الكاملة لعلم القرآن الذي عندهم، ولا يمنع أن يكون للعلماء... بل لعامّة الناس الذين لهم نصيب من الفهم، أن يحظوا بقسط من علوم القرآن أيضاً. كما أنّ هذه الآية تدلّ ضمناً على أن العلم ليس منحصراً بالكتاب، أو بما يلقيه الأستاذ على تلاميذه... لأنّ النّبي(ص) - طبقاً لصريح الآيات المتقدمة - لم يدرس في مدرسة ولم يكتب من قبل كتاباً... إلاّ أنّه كان خير مصداق للذين "أوتوا العلم". فإذاً فما وراء العلم "الرسمي" الذي نعهده، علم أوسع وأعظم، وهو علم يأتي من قبل الله تعالى على شكل نور يقذف في قلب الإنسان، كما ورد في الحديث "العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء". وهذا هو جوهر العلم، أمّا ما سواه فهو الصدف والقشر! وتُختتم الآية بقوله تعالى: (وما يجحد بآياتنا إلاّ الظالمون)... لأنّ دليلها واضح، فالنّبي الأميّ الذي لم يقرأ ولم يكتب، هو الذي جاء بها... والعلماء المطلعون هم المؤمنون بها. ثمّ بعد هذا كلّه، فإنّ الآيات نفسها مجموعة من الآيات البينات "كلمات ذوات محتوى جلي مشرق". وقد وردت علائمها في الكتب المتقدمة. ومع كل هذا ترى هل ينكر هذه الآيات إلاّ الذين ظلموا أنفسهم وظلموا مجتمعهم "ونكرر أن التعبير بـ "بالجحد" يكون في مورد ما لو أن الإنسان يعتقد بالشيء وينكره على خلاف ما يعلمه"!. بحوث 1 - الرّسول صل الله عليه وآله وسلمّ.. الأمي صحيح أن القراءة والكتابة تعدّان - لكل إنسان - كمالا.. إلاّ أنّه يتفق أحياناً - وفي ظروف معينة - أن يكون من الكمال في عدم القراءة والكتابة... ويصدق هذا الموضوع في شأن الأنبياء، وخاصة في نبوّة خاتم الأنبياء "محمّد"(ص). إذ يمكن أن يوجد عالم قدير وفيلسوف مطّلع، فيدّعي النبوّة ويظهر كتاباً عنده على أنّه من السماء، ففي مثل هذه الظروف قد تثار الشكوك والإحتمالات أو الوساوس في أنّ هذا الكتاب - أو هذا الدين - هو من عنده لا من السماء!. إلاّ أنّنا إذا رأينا إنساناً ينهض من بين أُمّة متخلفة، ولم يتعلم على يد أي أستاذ، ولم يقرأ كتاباً ولم يكتب ورقةً - فيأتي بكتاب عظيم عظمة عالم الوجود، بمحتوى عال جداً... فهنا يمكن معرفة أن هذا الكتاب ليس من نسج فكره وعقله، بل هو وحي السماء وتعليم إلهي، ويدرك هذا بصورة جيدة!. كما أنّ هناك تأكيداً على أُمية النّبي(ص) في آيات القرآن الأُخرى، وكما أشرنا آنفاً في الآية (157) من سورة الأعراف إلى أن هناك ثلاثة تفاسير لمعنى "الأميّ"، وأوضحها وأحسنها هو أنّه من لا يقرأ ولا يكتب. ولم يكن في محيط الحجاز وبيئته - أساساً - درس ليقرأ النّبي(ص)، ولا معلم ليحضر عنده ويستفيد منه، وقلنا: إنّ عدد المثقفين الذين كانوا يقرأون ويكتبون في مكّة لم يتجاوز سبعة عشر نفراً فحسب، ويقال أن من النساء كانت امرأة واحدة تجيد القراءة والكتابة(5). وطبيعي في مثل هذا المحيط الذي تندر فيه أدنى مرحلة للعلم وهي القراءة والكتابة، لا يوجد شخص يعرف القراءة والكتابة ولا يعرف عنه الناس شيئاً... وإذا ظهر مدع وقال - بضرس قاطع - إنّني لم أقرأ ولم أكتب، لم ينكر عليه أحد دعاءه، فيكون عدم الإنكار دليلا جليّاً على صدق مدّعاه، وعلى كل حال فإنّ هذه الكيفية الخاصة للنّبي(ص) التي نوهت عنها الآيات المتقدمة، إنّما هي لإكمال إعجاز القرآن، ولقطع السبيل أمام حجج المتذرعين بالأباطيل الواهية، وفيها تأثير بالغ ونافع جدّاً. أجل، إنّه عالم منقطع النظير، لكنّه لم يدرس في مدرسة، بل تعلّم من وحي السماء!. تبقى هناك ذريعة واحدة يحتج بها المتذرعون، وهي أنّ النّبي سافر إلى الشام مرّة أو مرتين "لفترة وجيزة ولغرض التجارة".. قبل نبوته، فيقولون: ربّما اتصل في بعض هاتين السفرتين بعلماء أهل الكتاب وتعلّم منهم هذه المسائل!. والدليل على ضعف هذا الإدّعاء منطو في نفسه، فكيف يمكن أن يسمع إنسان جميع هذه الدروس وتواريخ الأنبياء والأحكام والمعارف الجليلة، وهو لم يمض إلى مدرسة ولم يقرأ شيئاً، فيحفظ كل ذلك بهذه السرعة، ويودعه في ذهنه، ثمّ يبيّنه ويفصله خلال مدّة ثلاث وعشرين سنة؟! وأن يبدي موقفاً مناسباً للحوادث غير المتوقعة والتي لم يسبق لها مثيل. وهذا يشبه تماماً أن نقول مثلا: إنّ فلاناً تعلم قائمة العلوم والفنون الطبية كلّها في عدّة أيّام، وأنّه كان مشرفاً على معالجة المرضى في المستشفى الفلاني، ومستشاراً للأطباء، هذا كلام أقرب إلى المزاح والهزل منه إلى الجد. وينبغي الإلتفات إلى هذه المسألة، هي أن النّبي(ص) بعد أن بلغ مرحلة النبوّة، يحتمل أن يكون قادراً على القراءة والكتابة، حينئذ وذلك بواسطة التعليم الالهي وإن لم يرد في التواريخ أنّه استفاد من هذه الطريقة! ولم يقرأ شيئاً بنفسه أو يكتب شيئاً بيده، ولعل النّبي(ص) تجنب كل ذلك في طول عمره لئلا يتذرع المتذرعون فيثيروا الشكوك بنبوّته! الشيء الوحيد الذي جاء في كتب التأريخ أن النّبي (ص)كتبه بنفسه، هو صلح الحديبية الذي جاء في مسند أحمد أن "النّبي أمسك القلمبيده وكتب معاهدة الصلح"(6). إلاّ أنّ جماعة من علماء الإسلام أنكروا هذا الحديث، وقالوا: إنّ هذا مخالف لصريح الآيات، وإن اعتقد البعض بأنّه ليس في الآيات صراحة، لأنّ الآيات ناظرة لحال النّبي قبل بعثته، فما يمنع أن يكتب النّبي على وجه الإستثناء بعد أن نال مقام النبوّة.. في مورد واحد.. ويكون ذلك بنفسه معجزة أُخرى من معاجزه!. إلاّ أن الإعتماد في مثل هذه المسألة على خبر الواحد مجانب للحزم والأحتياط، ومخالف لما ثبتت في علم الأصول حتى لو قلنا أنّ هذا الخبر لا اشكال فيه.(7) 2 - طريق النفوذ في الآخرين لا يكفي الأستدلال القوي المتين للنفوذ إلى قلوب الآخرين واكتسابهم بالكلام الحق، فانّ أُسلوب التعامل مع الطرف الآخر وطريقة البحث والمناظرة تترك أعمق الأثر في هذه المرحلة.. فكثيراً ما يتفق أن يوجد أناس مطّلعون ولهم يد طولى في البحوث العلمية الدقيقة، إلاّ أنّهم قلّما يوفقون للنفوذ إلى قلوب الآخرين، بسبب عدم معرفتهم بكيفية المجادلة بالتي هي أحسن، وعدم معرفتهم بالبحوث البنّاءة!. وبتعبير آخر فإنّ النفوذ إلى مرحلة الوعي - في المخاطب - غير كاف وحده، بل ينبغي الدخول إلى مرحلة عدم الوعي الذي يمثل القسم الأكبر لروح الإنسان أيضاً. ويستفاد من مطالعة أحوال الأنبياء، ولا سيما حال النّبي محمّد(ص) وأئمّة الهدى(ع) - بصورة جيدة أن هؤلاء العظام سلكوا أحسن سبل الأخلاق الإجتماعية وأسس المعارف النفسية والإنسانية، لأجل تحقيق أهدافهم التبليغية والتربوية!. وكانت طريقة تعاملهم مع الناس أن يكتسبوهم إليهم بشكل سريع فينجذبوا إليهم، وإن كان بعض الناس يميل إلى أن يضفي على مثل هذه الأُمور ثوب الإعجاز دائماً، إلاّ أنّه ليس كذلك، فلو اتبعنا سنتهم وطريقتهم لاستطعنا بسرعة أن نترك في الناس عظيم الأثر، وأن ننفذ إلى أعماق قلوبهم. والقرآن يخاطب نبيّ الأسلام(ص) بصراحة فيقول: (ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك) (8) أو كثيراً ما يرى أنّ بعضهم بعد ساعات من الجدال والمناظرة، لا أنه لا يحصل على تقدم في مناقشاته فحسب، بل على العكس يجعل الطرف الآخر متعصباً ومتشدداً في عقيدته الباطلة بصورة أكثر... وذلك دليل على أنّه لم يتبع أُسلوب المجادلة بالتي هي أحسن. فالخشونة في البحث، وطلب الإستعلاء، وتحقير الطرف المقابل، وإظهار التكبر والغرور، وعدم احترام أفكار الآخرين، وعدم الجدية في المناقشات والبحوث، كلها من الأُمور التي تبعث على انهزام الإنسان في بحثه، وعدم انتصاره على الطرف الآخر. لذلك فإنّنا نرى في مباحث الأخلاق الإسلامية بحثاً تحت عنوان "تحريم الجدال والمراء" والمراد منه الأبحاث التي لا يطلب من ورائها الحق، بل المراد منها الإستعلاء وإبراز العضلات لا غير!. وتحريم الجدال والمراء - بالإضافة إلى الجوانب المعنوية والإخلاقية - إنّما هو لأنّه لا يحصل من ورائهما على نتيجة فكرية ملحوظة. والجدال والمراء في حرمتهما متقاربان، إلاّ أن العلماء من المسلمين جعلوا فرقاً بين كلّ منهما... "فالمراء" معناه إظهار الفضل والكمال، "والجدال" يراد منه تحقير الطرف المقابل!. وقالوا: إنّ الجدال هي المراحل الهجومية الأُولى في البحث... وأمّا المراء فيراد منه الصدّ الدفاعي في الكلام. كما أنّ هناك قولا بأن الجدال في المسائل العلمية، أمّا المراء فهو في الأعم منها "وبالطبع فإنه لا تضادّ بين هذه التفاسير جميعاً". وعلى كل حال، فإنّ الجدال أو البحث مع الآخرين، تارة يقع بالتي هي أحسن، وذلك ما بيّناه بالشرائط المتقدمة آنفاً، وينبغي رعايتها بدقّة. وتارة يكون بغير الأحسن، وذلك في ما لو أهملت الأُمور التي ذكرناها في مستهل كلامنا على الجدال، وجعلت في طيّ النسيان. ونختتم هذا الكلام بعدة روايات بليغة ونافعة لنتعلم منها: ففي حديث عن النّبي(ص) أنّه قال: "لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وإن كان محقاً" (9). ونقرأ في حديث آخر أن سليمان النّبي(ع) قال لولده "يا بني إيّاك والمراء، فإنّه ليست فيه منفعة، وهو يهيج بين الأخوان العداوة" (10). 3 - الكافرون والظالمون نواجه في الآيات المتقدمة آنفاً هذا التعبير (وما يجحد بآياتنا إلاّ الكافرون)ومرّة أُخرى نواجه المضمون ذاته مع شيء من التفاوت فبدلا من كلمة "الكافرون" جاءت كلمة "الظالمون" (وما يجحد بآياتنا إلاّ الظالمون). والموازنة بين التعبيرين تدلّ على أن المسألة ليست من قبيل التكرار، بل هي لبيان موضوعين، أحدهما يشير إلى جانب عقائدي "الكافرون" والآخر يشير إلى جانب عملي "الظالمون". فالآية الأُولى تقول: إنّ الذين اختاروا الشرك والكفر بأحكامهم المسبّقة الباطلة وتقليدهم الأعمى لأسلافهم، لا يرون آيةً من آيات الله إلاّ أنكروها وإن تقبلتها عقولهم"! أمّا التعبير الثّاني فيقول: إنّ الذين اختاروا بظلمهم أنفسهم ومجتمعهم طريقاً يرون فيه منافعهم الشخصية، وعزموا على الإستمرار في هذه الطريق، لا يذعنون لآياتنا. لأنّ آياتنا كما أنّها لا تنسجم مع خطهم الفكري، فهي لاتنسجم مع خطهم العملي أيضاً. ﴿بَلْ هُوَ﴾ أي القرآن ﴿آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ يحفظونه عن التحريف وهم النبي وآله ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا﴾ الواضحة ﴿إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ بالعناد والمكابرة.