والآية التالية تبيّن جانباً من هذه النعم فتقول: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنّة غرفاً تجري من تحتها الأنهار)(5).
فهم في قصور تحيط بها أشجار الجنّة من كلّ جانب، الأنهار المختلفة التي لكلّ منها طعمه ولونه، طبقاً لآيات القرآن الاُخر، وهي ما بين الأشجار وتحت تلك القصور جارية أبداً.. (لاحظوا أن "غرف" جمع غرفة، ومعناها البناء المرتفع المشرف على أطرافه).
والامتياز الآخر لغرف الجنّة أنّها ليست كغرف الدنيا وقصورها ومنازلها التي ما أن يضع الإنسان فيها قدمه حتى يسمع نداء "الرحيل"، فغرف الجنّة دائمة (خالدين فيها).
ويضيف القرآن معقباً في ختام الآية (نعم أجر العاملين).
وبموازنة بسيطة بين ما ذكر آنفاً في شأن الكفّار والمذنبين في الآيات السابقة، وما ورد في هذه الآية، تتّضح عظمة ثواب المؤمنين.
فالكفّار غارقون في نار جهنّم من قرنهم إلى قدمهم، ويقال لهم على سبيل التوبيخ (ذوقوا ما كنتم تعملون).
أمّا المؤمنون فهم مقيمون في نعيم الجنّة وتحيط بهم رحمة الله من كلّ جانب، وبدلا من كلمات التوبيخ يُكلمون بكلام طيب ملؤه المحبّة واللطف الإلهي الكريم، أجل يقال لهم: (نعم أجر العالمين).
وبديهي أنّ المراد بالعاملين هنا مع قرائن الجمل السابقة، هم الذين يعملون الصالحات المقرونة بإيمانهم، وإن كانت كلمة العاملين مطلقة.
وفي حديث عن نبيّ الإسلام العظيم(ص) يصف الجنّة فيقول: "إنّ في الجنّة لغرفاً يرى ظهورها من بطونها و بطونها من ظهورها" فنهض بعض أصحابه فقال: يا رسول الله(ص) لمن هذه الغرف؟ فقال (ص): "هي لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وصلى لله بالليل والناس نيام" (6).
والآية التالية تصف أهمّ ما يتحلّى به المومنون العاملون فتقول: (الذين صبروا وعلى ربّهم يتوكلون).
إذ يبتعدون عن الزوجة والأولاد والأهل والبيت والأحباب والأصدقاء وكل شيء عزيز عليهم، لكنّهم يصبرون برغم الفراق يذوقون مرارة الغربة والتهجير عن أوطانهم و يصبرون، وتتلقى أنفسهم العذاب والأذى من أعدائهم من أجل حفظ إيمانهم، ويواجهون الصعاب في جهادهم الأكبر "جهادهم مع النفس" وجهادهم اعداءهم بشدّة، ويتحملون أنواع المشاكل فيصبرون!
أجل، هذا الصبر وهذه الإستقامة هما رمز انتصارهم وعامل فخرهم الكبير، وبدونه لا يتحقق عمل إيجابي في الحياة.
ثمّ بعد هذا كلّه، فهم لا يعتمدون على أموالهم ولا على أصدقائهم، بل يعتمدون على الله ويتوكلون على ذاته المقدسة، وإذ ابتغى ألف عدو هلاكهم تمثلوا قائلين: "امتحانك رحمة فلا أكترث بالأعداء".
وإذ أمعنا النظر وفكّرنا جيداً رأينا أن الصبر والتوكل هما أساس جميع الفضائل الإنسانية، فالصبر هو عامل الإستقامة أمام العوائق والمشاكل، والتوكل هو الهدف والباعث على الحركة في هذا الطريق المديد الملتوي.
وفي الحقيقة ينبغي الإستمداد من هاتين الفضيلتين (الصبر والتوكل) للأعمال الصالحة، إذ بدونهما لا يمكن أن تؤدى الأعمال الصالحة بالمقياس الواسع(7).
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم﴾ لننزلنهم ﴿مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا﴾ أعالي وقرىء لنثوينهم من الإثواء الإقامة ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ أجرهم.