إلاّ أنّ هذا الكلام الفارغ لم يؤثرّ في معنويات هذا النّبي الكبير، حيث واصل دعوته إلى الله، ولم يكن في عمله دليل على رغبته في الحصول على إمتياز على الاُخرين، أو أن يتسلّط عليهم، لهذا لجأوا إلى توجيه تهمة أُخرى إليه، هي الجنون الذي كان يتّهم به جميع أنبياء الله عبر التاريخ، حيث قالوا: (إن هو إلاّ رجل به جنّة فتربّصوا به حتّى حين).
واستخدم المشركون تعبير (به جنّة) ضدّ هذا النّبي المرسل أي به (نوع من أنواع الجنون) ليغطّوا على حقيقة واضحة، فكلام نوح (ع) خير دليل على رجحان علمه وعقله، وكانوا يبغون - في الحقيقة - أن يقولوا: كلّ هذه الاُمور صحيحة، إلاّ أنّ الجنون فنون له صوراً متباينة قد يقترن أحدها بالعقل!!
أمّا عبارة (فتربّصوا به حتّى حين) فقد تكون إشارة إلى إنتظار موت نوح (ع)من قبل المخالفين الذين ترقّبوا موته لحظة بعد أُخرى ليريحوا أنفسهم، ويمكن أن تعني تأكيداً منهم لجنونه، فقالوا: انتظروا حتّى يشفى من هذا المرض(1).
وعلى كلّ حال فإنّ المخالفين وجّهوا إلى نوح (ع) ثلاثة إتّهامات واهية متناقضة، واعتبروا كلّ واحد منها دليلا ينفي رسالته:
الأوّل: إنّ ادّعاء البشر بأنّهم رسل الله ادّعاء كاذب، حيث لم يحدث مثل هذا في السابق، ولو شاء الله ذلك لبعث ملائكته رسلا إلى الناس!
والثّاني: إنّه رجل سلطوي، وكلامه ادّعاء لتحقيق هدفه!
والثّالث: إنّه لا يملك عقلا سليماً، وكلّ ما يقوله هو كلام عابر!
وبما أنّ جواب هذه الإتّهامات الواهية أمر واضح جدّاً، وقد جاء في آبات قرآنية أُخرى، لهذا لم يتطرّق إلى ردّها في هذه الآيات.
لأنّه من المؤكّد - من جهة - أن يكون قائد الناس أحدهم ومن جنسهم، ليكون على علم بمشاكلهم ويحسّ بآلامهم، إضافةً إلى ذلك فإنّ جميع الأنبياء كانوا من البشر.
ومن جهة أُخرى يتّضح لنا خلال تصفّح تأريخ الأنبياء وإستعراض حياتهم، أنّ قضيّة الاُخوّة والتواضع، تنفي أيّة صفة سلطوية عنهم، كما ثبت رجحان عقلهم وتدبيرهم حتّى عند أعدائهم، حيث نجدهم يعترفون بذلك خلال أقوالهم.
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ﴾ جنون ﴿فَتَرَبَّصُوا بِهِ﴾ انتظروه ﴿حَتَّى حِينٍ﴾ إلى زمن إفاقته أو زمن موته فتستريحوا منه.