وفي المرحلة الثّالثة... يتجه القرآن نحو الفطرة والجبلّة الإنسانية، ونحو تجلّي نور التوحيد في أشدّ الأزمات في أعماق روح الإنسان، وضمن مثال بديع جدّاً وبليغ فيقول: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلمّا نجّاهم إلى البرّ إذا هم يشركون).
أجل، إنّ الشدائد والازمات هي التي تهيء الارضية لتفتح الإجتماعية "الفطرة" الإنسانية، لأنّ نور التوحيد مخفي في أرواح الناس جميعاً، إلاّ أن الآداب والمسائل الخرافية والتربية الخاطئة والتلقينات السيئة تلقي عليه ظلالا وأستاراً، ولكن حين تحدق بالإنسان الشدائد وتحيط به دوّامات المشاكل، ويرى يده قاصرة عن الأسباب الظاهرية، يتجه بدون اختياره إلى عالم ما وراء الطبيعة، ويخلص قلبه من كل نوع من أنواع الشرك والكفر، وينصهر في تنور الحوادث، ويكون مصداقاً لقوله تعالى: (مخلصين له الدين).
وملخص الكلام: إنّه توجد في داخل قلب الإنسان دائماً نقطة نورانية، وهي خطّ ارتباطه بما وراء عالم الطبيعة، وأقرب طريق إلى الله.
إلاّ أنّ التعليمات الخاطئة والغفلة والغرور - وخاصة عند السلامة ووفور النعمة - تلقي عليها أستاراً، غير أن طوفان الحوادث يزيل هذه الأستار، وتتجلى نقطة النور آنذاك.
وعلى هذا، فإنّ أئمّة المسلمين العظام كانوا يرشدون المترددين في مسألة "معرفة الله" ويغرقون في الشك والحيرة.. بهذا الأمر.
وقصّة الرجل المتحيّر المبتلى بالشك في معرفة الله، والذي أرشده الإمام الصادق(ع) عن طريق الفطرة والوجدان، سمعناها جميعاً إذ قال: يابن رسول الله، دلّني على الله ما هو؟! فقد أكثر علي المجادلون وحيّروني!
فقال له الإمام(ع): "يا عبدالله، هل ركبت سفينة قطّ؟قال: نعم.
قال: فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟!
قال: نعم!
قال: فهل تعلّق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟!
قال: نعم.
قال الصادق(ع): فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث".(3)
﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أي الدعاء لا يدعون إلا إياه إذ لا يكشف الشدائد سواه ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ عادوا إلى الشرك.