وفي آخر آية - من الآيات محل البحث - وبعد ذكر جميع هذه الدلائل على التوحيد وعبادة الله، يواجه القرآن المشركين والكفار بتهديد شديد فيقول: إن هؤلاء أنكروا آياتنا وكفروا بما رزقناهم من النعم فليتمتعوا بها أيّاماً قلائل: (ليكفروا بما آتيناهم فسوف يعلمون) عاقبة كفرهم وشركهم إلى أين ستبلغ بهم؟ وأي ابتلاء ومصير مشؤوم سيقعون فيه؟!
وبالرغم من أنّ ظاهر الآية هنا هو الأمر بالكفر وإنكار آيات الله...إلاّ أن من البديهي أنّ المراد منه التهديد... وهذا تماماً ينطبق مثلا على ما لو قلنا لمذنب جان: افعل ما بدا لك من إجرام، إلاّ أنّك سرعان ما تذوق مرارة عملك؟
ففي مثل هذه العبارات، وإن استعملت صيغة الأمر فيها، إلاّ أنّ الهدف من ورائها هو التهديد وليس الطلب.
والطريف أن جملة (فسوف يعلمون) جاءت بصورة مطلقة، فهي لا تقول: أي شيء يعلمون... بل تقول: سيعلمون عاجلا، هذا هو معنى (فسوف يعلمون).
إطلاق الكلام هذا ليكون مفهومه واسعاً ولا يتحدد ذهن السامع بأي شيء فنتيجة الأعمال السيئة هي عذاب الله، الإفتضاح في الدارين، وكل أنواع الشقاء وسوء العاقبة!.
ملاحظة
الشدائد واشراق القطرة:
سنتحدث بإذن الله في ذيل الآية الثلاثين من سورة الروم حول "فطريّة" أصل التوحيد ومعرفة الله بشكل مفصّل، وما يلزم ذكره هنا هو أنّ القرآن المجيد يتحدث في آيات كثيرة عن المشاكل والصعاب على أنّها باعثة على ظهور الفطرة الإنسانية وبروزها "فالمشاكل والصعاب وسيلة لاشراق الفطرة".
يقول القرآن في بعض آياته: (وما بكم من نعمة فمن الله ثمّ إذا مسكم الضرّ فإليه تجأرون ثمّ إذا كشف الضر عنكم إذاً فريق منكم بربّهم يشركون).(4)
ويأتي هذا المعنى في سورة يونس، ولكن بأُسلوب آخر، إذ يقول القرآن (إذا مسّ الإنسان الضرّ دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضرّه مرّ كأن لم يدعنا إلى ضرّ مسه) (5) كما ورد هذا المعنى في سورة الروم الآية (32) وسورة الزمر الآية (49) وسورة الإسراء الآيات (67) - (69) بعبارات أُخرى وإشارات مليئة بالمعاني.
وفي الآيات - محل البحث - قرأنا أيضاً أن المشركين في الحالات العادية يتجهون إلى الأصنام، ولكن إذا سافروا في البحر وأحاطت بهم الأمواج والطوفان، وأضحت سفينتهم كالقشة في وسط الأمواج المتلاطمة تتقاذفها هنا وهنا، وانقطعت بهم السبل تتنور قلوبهم بنور التوحيد ويلقون جانباً جميع المعبودات المصنوعة، ويخلصون قلوبهم كاملا - لكن خلوصاً إجبارياً لا قيمة له - فما أن يهدأ الطوفان وتتلاشى الأمواج وتعود الحالة الإعتيادية، حتى تنزل الأسدال على الفطرة وتظهر أشواك الشرك والوثنية على هذه "الوردة".
قد يقال: إنّ هذه الحالة من التوجه تحصل على أثر التلقين والرسوبات الفكرية من الثقافة الإجتماعية وأفكار المحيط.
ويمكن قبول مثل هذا الكلام فيما إذا كانت هذه المسألة تحدث خاصّة في موارد المتدينين أو الذين نشؤوا في محيط ديني، ولكن مع الإلتفات إلى أن هذه الحالة تظهر حتى عند أشد المنكرين لله، وفي المجتمعات غير المذهبية، فيتّضح حينئذ أن جذرها كامن في الضمير (غير الواعي) للإنسان، وفي داخل فطرته وجبلّته!.
﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾ من نعمة الإنجاء ﴿وَلِيَتَمَتَّعُواا﴾ بعكوفهم على أصنامهم ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ غب ذلك.