التّفسير
عاقبة المسيئين:
كان الكلام في آخر آية من البحث السابق عن السطحيين وأصحاب الظاهر، حيث كان أفق فكرهم لا يتجاوز حدود الدنيا والعالم المادي.. وكانوا جاهلين بما وراء الطبيعة ويوم القيامة.
أمّا في هذه الآيات - محل البحث - والآيات المقبلة، فيقع الكلام على مطالب متنوعة حول المبدأ والمعاد، فتبدأ هذه الآيات أولا على صورة استفهامفتقول: (أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض إلاّ بالحق وأجل مسمى).
أي: لو أنّهم فكروا جيداً ورجعوا إلى عقلهم في الحكم ووجدانهم، لكانوا يطلعون جيداً على هذين الأمرين:
أوّلا: إنّ العالم خلق على أساس الحق، وتحكمه أنظمة هي دليل على أنّ الخالق لهذا العالم ذو علم مطلق وقدرة كاملة.
وثانياً: هذا العالم يمضي إلى الزوال، وحيث أن الخالق الحكيم لا يمكن أن يخلقه عبثاً، فيدل ذلك على وجود عالم آخر هو الدار الباقية بعد هذه الدنيا، وإلاّ فلا مفهوم لخلق هذا العالم، وهذا الخلق الطويل العريض لا يعقل أن يكون من أجل أيّام معدودات في الحياة الدنيا، وبذلك يذعنون بوجود الآخرة!.
فعلى هذا يكون التدقيق في نظم هذا العالم وحقانيته دليلا على وجود المبدأ، والتدقيق في أن هناك "أجلا مسمى" دليل على المعاد "فلاحظوا بدقة".
لذلك يضيف القرآن في نهاية الآية قائلا: (وإن كثيراً من الناس بلقاء ربّهم لكافرون) فينكرون لقاء الله.
أو إنّهم ينكرون المعاد أصلا، كما نقلنا عن قول المشركين مراراً في آيات القرآن، إذ كانوا يقولون: (أإذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد) (إنّ هذا إلاّ اختلاق) (إنَّ هذا لشيء عجاب).
إنَّ هذا.. إنّ هذا.. الخ.. وبتعابير مختلفة "كماورد في سورة الرعد الآية (رقم 5)، وسورة المؤمنون الآية (35)، وسورة النمل الآية (67)، وسورة ق الآية (رقم 3) وفي غيرها من السور".
أو إنّهم لا ينكرون بلسانهم، لكن أعمالهم "ملوثة" ومخزية تدل على أنّهم غير معتقدين بالمعاد، إذ لو كانوا يعتقدون بالمعاد لم يكونوا فاسدين أو مفسدين!.
والتعبير بـ (في أنفسهم) لا يعني أن يطالعوا في أسرار وجودهم، كما يدّعي الفخر الرازي في تفسيره، بل المراد منه أن يفكروا في داخل أنفسهم عن طريقالعقل والوجدان يخلق السماوات والأرض.
والتعبير (بالحق) له معنيان: الأوّل: أنّ الخلق كان توأماً مع الحق والقانون والنظم، والآخر: أن الهدف من الخلق كان بالحق، ولا منافاة بين هذين التّفسيرين طبعاً(1).
والتعبير (بلقاء ربّهم) كما قلنا مراراً، هو إشارة إلى يوم القيامة والنشور، حيث تنكشف الحجب، والإنسان يعرف عظمة الله بالشهود الباطنيّين
(أ ولم يتفكروا في أنفسهم) ظرف نحو تفكر في قلبه أو صلة أي في أمرها فإنها أقرب شيء إليهم وفيها ما في العالم الأكبر من عجائب الصنع (ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى) ينتهي بقاؤها إليه (وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم) بلقاء جزائه والبعث (لكافرون) جاحدون لعدم تفكرهم .