التفسير
يوم لا ينفع الإعتذار:
قلنا إن في هذه السورة أبحاثاً منسجمة ومتناغمة تتعلق بالمبدأ والمعاد.. وفي الآيات - محل البحث - يعقب القرآن على البحوث التي كانت حول المبدأ والمعاد أيضاً، فيعود إلى بيان مشهد من مشاهد يوم القيامة الأليمة، وذلك بتجسيمه حالة المجرمين في ذلك اليوم، إذ يقول: (ويوم تقوم الساعة يقسمالمجرمون ما لبثوا غير ساعة) في عالم البرزخ أجل (كذلك كانوا يؤفكون)فإنّهم فيما سبق كانوا محرومين من إدراك الحقائق ومصروفين عنها.
والتعبير بـ "الساعة" عن يوم القيامة - كما أشرنا إليه سابقاً - هو إمّا لأنّ يوم القيامة يقع في لحظة مفاجئة، أو لأنّه من جهة أن أعمال العباد تحاسب بسرعة هناك، لأنّ الله سريع الحساب، ونعرف أنّ "الساعة" في لغة العرب تعني جزءاً أو لحظة من الزمن(1).
وبالرغم من أنّ الآية المتقدمة لم تشر إلى مكان (اللبث) حتى احتمل بعضهم أنّ المراد منه هو لبثهم في الدنيا، الذي هو في الواقع بمثابة لحظة عابرة لا أكثر، إلاّ أنّ الآية التي بعدها دليل واضح على أن المراد منه هو اللبث في عالم البرزخ.. وعالم ما بعد الموت.. وما قبل القيامة، لأنّ جملة (لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث) تنهي هذا اللبث إلى يوم القيامة، ولا يصح هذا إلاّ في شأن البرزخ (فلاحظوا بدقة).
ونعرف - هنا أيضاً - أن "البرزخ" ليس للجميع على شاكلة واحدة، فقسم له في البرزخ حياة واعية، وقسم مثلهم كمن يغط في نوم عميق - في عالم البرزخ - ويستيقظون في يوم القيامة، ويتصورون آلاف السنين ساعة واحدة(2).
مسألتان
الأوّل: كيف يقسم المجرمون مثل هذا القسم الكاذب؟
والجواب واضح، فهم يتصورون - واقعاً - مثل هذا التصور، ويظنون أن فترة البرزخ كانت قصيرة جدّاً، لأنّهم كانوا في حالة تشبه النوم، ألا ترى أن أصحاب الكهف الذين كانوا صالحين مؤمنين، حين أفاقوا بعد نوم طويل، تصوروا أنّهم لبثوا يوماً أو بعض يوم في منامهم.
أو أن أحد الأنبياء الواردة قصته في سورة البقرة (الآية 259) بعد أن أماته الله مئة عامة ثمّ بعثه للحياة ثانية، لم يظهر في تصوره غير أنّه لبث يوماً أو بعض يوم.
فما يمنع أن يتصور المجرمون - مع ملاحظة حالتهم الخاصة في عالم البرزخ وعدم إطلاعهم - مثل هذا التصور!؟
لذا يقول المؤمنون الذين أُوتوا العلم - كما تذكره الآية التي تأتي بعد هذه الآية -: إنّكم غير مُصيبين في قولكم، إذ لبثتم في عالم البرزخ إلى يوم القيامة، وهذا هو يوم القيامة!.
ومن هنا تتّضح المسألة الثّانية.
أي تفسير جملة (كذلك كانوا يؤفكون)لأنّ "الإفك" في الأصل معناه تبدل الوجه الحقيقي والإنصراف عن الحق، وهذه الجماعة ابتعدت عن الواقع لحالتها الخاصة في عالم البرزخ، فلم تستطع أن تحدد لبثها في عالم البرزخ.
ومع ملاحظة أنّه لاحاجة لنا إلى الأبحاث الطويلة التي بحثها جمع من المفسّرين، وفي أنّه لم يكذب المجرمون عمداً في يوم القيامة، لأنّه ليس في الآية دليل على كذبهم العمد في هذه المرحلة!.
وبالطبع فإنّنا نرى في آيات القرآن الأخر أمثلة من أكاذيب المجرمين يوم القيامة، وقد بيّنا الإجابة المفصلة على كل ذلك في ذيل الآية (23) من سورة الأنعام، لكن ذلك البحث لا علاقة له بموضوع هذه الآيات!
(ويوم تقوم الساعة) القيامة (يقسم المجرمون ما لبثوا) في القبور أو في الدنيا أو فيما بين فنائها والبعث وهو وقت انقطاع عذابهم (غير ساعة) يستقصرون مدة لبثهم بالنسبة إلى مدة عذاب الآخرة أو ينسونها (كذلك) الصرف عن الصدق (كانوا يؤفكون) يصرفون في الدنيا .