التّفسير
بعد إنتهاء مواعظ لقمان العشر حول المبدأ والمعاد وطريقة الحياة، وخطط وبرامج القرآن الأخلاقية والإجتماعية، ولأجل إكمال البحث، تتّجه الآيات إلى بيان نعم الله تعالى لتبعث في الناس حسن الشكر... الشكر الذي يكون منبعاً لمعرفة الله وطاعة أوامره(1)، فيوجّه الخطاب لكلّ البشر، فيقول: (ألم تروا أنّ الله سخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض).
إنّ لتسخير الموجودات السماوية والأرضيّة للإنسان معنى واسعاً يشمل الاُمور التي في قبضته وإختياره، ويستخدمها برغبته وإرادته في طريق تحصيل منافعه ككثير من الموجودات الأرضيّة، كما تشمل الاُمور التي ليست تحت تصرّفه وإختياره، لكنّها تخدم الإنسان بأمر الله جلّ وعلا كالشمس والقمر.
وبناءً على هذا فإنّ كلّ الموجودات مسخّرة بإذن الله لنفع البشر، سواءً كانت مسخّرة بأمر الإنسان أم لا، وعلى هذا فإنّ اللام في (لكم) لام المنفعة(2).
ثمّ تضيف الآية: (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة).
"أسبغ" من مادّة (سَبغ) وهي في الأصل بمعنى الثوب أو الدرع العريض الكامل، ثمّ اُطلق على النعم الكثيرة الوفيرة أيضاً.
هناك إختلاف بين المفسّرين في المراد من النعم الظاهرة والباطنة في هذه الآية... فالبعض إعتقد أنّ النعمة الظاهرة هي الشيء الذي لا يمكن لأيّ أحد إنكاره كالخلق والحياة وأنواع الأرزاق، والنعم الباطنة إشارة إلى الاُمور التي لا يمكن إدراكها من دون دقّة ومطالعة ككثير من القوى الروحية والغرائز المهمّة.
والبعض عدّ الأعضاء الظاهرة هي النعم الظاهرة، والقلب هو النعمة الباطنة.
والبعض الآخر إعتبر حسن الصورة والوجه والقامة المستقيمة وسلامة الأعضاء النعمة الظاهرة، ومعرفة الله هي النعمة الباطنة.
وفي حديث عن الرّسول الأعظم (ص) أنّ ابن عبّاس سأله عن النعم الظاهرة والباطنة فقال (ص): "يابن عبّاس، أمّا ما ظهر فالإسلام وما سوّى الله من خلقك، وما أفاض عليك من الرزق، وأمّا ما بطن فستر مساويء عملك ولم يفضحك به"(3).
وفي حديث آخر عن الباقر (ع): "النعمة الظاهرة: النّبي (ص) وما جاء به النّبي من معرفة الله، وأمّا النعمة الباطنة ولايتنا أهل البيت وعقد مودّتنا"(4).
إلاّ أنّه لا توجد أيّة منافاة بين هذه التفاسير في الحقيقة، وكلّ منها يبيّن مصداقاً بارزاً للنعمة الظاهرة والنعمة الباطنة دون أن يحدّد معناها الواسع.
وتتحدّث الآية في النهاية عمّن يكفر بالنعم الإلهية الكبيرة العظيمة، والتي تحيط الإنسان من كلّ جانب، ويهبّ إلى الجدال ومحاربة الحقّ، فتقول: (من الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدىً ولا كتاب منير) وبدل أن يعرف ويقدّر هبة وعطاء كلّ هذه النعم الظاهرة والباطنة، فإنّه يتّجه إلى الشرك والجحود نتيجة الجهل.
ولكن ما هو الفرق بين "العلم" و "الهدى" و "الكتاب المنير"؟
لعلّ أفضل ما يمكن أن يقال في ذلك هو أنّ "العلم": إشارة إلى الإدراكات التي يدركها الإنسان عن طريق عقله، و "الهدى": إشارة إلى المعلّمين والقادة الربّانيين والسماويين، والعلماء الذين يأخذون بيده في هذا المسير ويوصلونه إلى الغاية والهدف، والمراد من "الكتاب المنير": الكتب السماوية التي تملأ قلب الإنسان نوراً عن طريق الوحي.
إنّ هذه الجماعة العنيدة في الحقيقة لا يمتلكون علماً، ولا يتّبعون مرشداً وهادياً، ولا يستلهمون من الوحي الإلهي، ولمّا كانت طرق الهداية منحصرة بهذه الاُمور الثلاثة فإنّ هؤلاء لمّا تركوها سقطوا في هاوية الضلال والضياع ووادي الشياطين.
﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ من النيرات لمنافعكم ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ من الحيوان وغيره﴿وَأَسْبَغَ﴾ أوسع وأتم ﴿عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ محسوسة ومعقولة أو معلومة قال الباقر (عليه السلام): الظاهرة النبي وما جاء به والباطنة ولايتنا أهل البيت ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ﴾ في توحيده ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾أخذ عن حجة ﴿وَلَا هُدًى﴾ عن رسول ﴿وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾ أنزل الله بل بالتقليد.