التّفسير
سعة علم الله:
في هاتين الآيتين اللتين هما آخر آيات سورة لقمان، تلخيص للمواعظ والنصائح السابقة ولأدلّة التوحيد والمعاد، وتوجيه الناس إلى الله واليوم الآخر وتحذير من الغرور الناشيء من الدنيا والشيطان، ثمّ الحديث عن سعة علم الله سبحانه وشموله لكلّ شيء، فتقول: (ياأيّها الناس اتّقوا ربّكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً).
إنّ الدستور الأوّل هو التوجّه إلى المعاد، فالدستور الأوّل يحيي في الإنسان قوّة المراقبة، والثّاني ينمّي روح الثواب والعقاب، ولا شكّ أنّ الإنسان الذي يعلم أنّ شخصاً خبيراً ومطّلعاً على كلّ أعماله يراه ويعلم به ويسجّل كلّ أعماله، ومن ناحية اُخرى يعلم أنّ محكمة عادلة ستتشكّل للتحقيق في كلّ جزئيات أعماله، لا يمكن أن يتلوّث بأدنى فساد ومعصية.
جملة (لا يجزي) من مادّة الجزاء، و "الجزاء" ورد بمعنيين من الناحية اللغوية:
أحدهما: المكافأة والمعاقبة مقابل شيء، كما يقال: جزّاه الله خيراً.
والآخر: الكفاية والنيابة والتحمّل للشيء عن الآخرين، كما جاء في الآية مورد البحث: (لا يجزي والد عن ولده).
ومن الممكن أن يعود كلا المعنيين إلى أصل واحد، لأنّ الثواب والعقاب يحلاّن محلّ العمل وينوبان عنه، وهما بمقداره أيضاً - تأمّلوا ذلك -.
على كلّ حال، فإنّ كلّ إنسان في ذلك اليوم مشغول بنفسه، ومبتلى بمعطيات أعماله وآثارها إلى درجة أنّه لا ينظر إلى أحد ولا يهتمّ به، حتّى وإن كان أبوه، أو إبنه الذي كانت تربطه به أقرب الروابط، فلا يفكّر أحد بآخر مطلقاً.
وهذه الآية نظير ما ورد في بداية سورة الحجّ في الحديث حول القيامة والزلزلة: (يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت).
وممّا يستحقّ الإنتباه أنّه يعبّر بـ (لا يجزي) في مورد الأب، وهي صيغة المضارع، أمّا في شأن الإبن فإنّه يعبّر باسم الفاعل (جاز) وهذا التفاوت في التعبير لعلّه من باب التنوّع في الكلام، أو إشارة إلى واجب ومسؤولية الإبن تجاه الأب، لأنّ اسم الفاعل يؤدّي معنى الدوام والتكرار أكثر.
وبتعبير آخر، فإنّ المتوقّع من العواطف الأبوية أن يتحمّل الأب مقداراً من العذاب عن إبنه، كما كان في الدنيا يتحمّل المصاعب والمشاكل في سبيله، لكن من الإبن أن يتحمّل مصائب الأب أكثر وفاءً لحقوق الاُبوّة المترتّبة عليه، في حين أن أيّاً منهما لا يتحمّل أدنى مشكلة عن الآخر، وكلّ منهما مشغول بأعماله، وحائر في أمره ونفسه.
وتحذّر الآية في النهاية البشر من شيئين، فتقول: (إنّ وعد الله حقّ فلا تغرنّكم الحياة الدنيا ولا يغرنّكم بالله الغرور) أي الشيطان.
في الواقع، يلاحظ هنا نهيان في مقابل الأمرين اللذين كانا في بداية الآية، فإنّ الإنسان إذا نمت فيه مسألة التوجّه إلى الله، والخوف من الحساب والجزاء، فلا يخاف عليه من الإنحراف والفساد، إلاّ من طريقين:
أحدهما: أن تغلب زخارف الدنيا وزبرجها الحقائق في عينيه بصور اُخرى، وتسلب منه القدرة على التشخيص، لأنّ حبّ الدنيا رأس كلّ الخطايا وأساسها.
والآخر: أن تخدعه وساوس الشيطان وتغرّه، وتبعده عن المبدأ والمعاد.
فإذا أغلق طريقي نفوذ المعصية والذنب هذين، فسوف لا يهدّده أيّ خطر، وعلى هذا فإنّ الدساتير والبنود الأربعة أعلاه تمثّل مجموعة كاملة من برنامج نجاة وخلاص الإنسان.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ﴾ لا يغني عنه شيئا فيه ﴿وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا﴾ وغير النظم تأكيدا لعدم نفع المولود ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾ بالبعث والجزاء ﴿حَقٌّ﴾ لا خلف فيه ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ الشيطان بأن يمنيكم المغفرة فيجرئكم على الذنوب.