لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ثمّ تشير الآية التالية إلى نظام الخلقة الأحسن والأكمل بصورة عامّة، ومقدّمة لبيان خلق الإنسان ومراحل تكامله بشكل خاصّ: (الذي أحسن كلّ شيء خلقه)وأعطى كلّ شيء ما يحتاجه، وبتعبير آخر: فإنّ تشييد صرح الخلقة العظيم قد قام على أساس النظام الأحسن، أي قام على نظام دقيق سالم لا يمكن تخيّل نظام أكمل منه. لقد أوجد سبحانه بين كلّ الموجودات علاقة وإنسجاماً، وأعطى كلاّ منها ما يطلبه على لسان الحال. إذا نظرنا إلى وجود الإنسان، وأخذنا بنظر الإعتبار كلّ جهاز من أجهزته، فسنرى أنّها خلقت من ناحية البناء والهيكل، والحجم، ووضع الخلايا، وطريقة عملها، بشكل تستطيع معه أن تؤدّي وظيفتها على النحو الأحسن، وفي الوقت ذاته فقد وضعت بين الأعضاء روابط قويّة بحيث يؤثّر ويتأثّر بعضها بالبعض الآخر بدون إستثناء. وهذا المعنى هو الحاكم تماماً في العالم الكبير مع المخلوقات المتنوّعة، وخاصّة في عالم الكائنات الحيّة، مع تلك التشكيلات والهيئات المختلفة جدّاً. والخلاصة: فإنّه هو الذي أودع أنواع العطور البهيجة في الأزهار المختلفة، وهو الذي يهبّ الروح للتراب والطين ويخلق منه إنساناً حرّاً ذكيّاً عاقلا، ومن هذا التراب المخلوط يخلق أحياناً الأزهار، وأحياناً الإنسان، وأحياناً اُخرى أنواع الموجودات الاُخرى، وحتّى التراب نفسه خلق فيه ما ينبغي أن يكون فيه. ونرى نظير هذا الكلام في الآية ( رقم 50) من سورة "طه" من قول موسى وهارون(ع): (ربّنا الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى). وهنا يطرح سؤال حول خلق الشرور والآفات، وكيفية إنسجامها مع النظام العالم الأحسن، وسنبحثه إن شاء الله تعالى فيما بعد. بعد هذه المقدّمة الآفاقية يدخل القرآن بحث الأنفس، وكما تحدّث في بحث الآيات الآفاقية عن عدّة أقسام للتوحيد، فإنّه يتحدّث هنا عن عدّة مواهب عظيمة في مورد البشر: يقول أوّلا: (وبدأ خلق الإنسان من طين) ليبيّن عظمة وقدرة الله سبحانه حيث خلق مثل هذا المخلوق الجليل العظيم من مثل هذا الموجود البسيط الحقير، هذا من جانب، ومن جانب آخر يحذّر الإنسان ويذكّره من أين أتيت، وإلى أين ستذهب؟! ومن المعلوم أنّ هذه الآية تتحدّث عن خلق آدم، لا كلّ البشر، لأنّ إستمرار نسله قد ذكر في الآية التالية، وظاهر هذه الآية دليل واضح على خلق الإنسان بشكل مستقل، ونفي فرضيّة تحوّل الأنواع (وعلى الأقل في مورد نوع الإنسان). وبالرغم من أنّ البعض أراد أن يفسّر هذه الآية بحيث تناسب وتلائم فرضية تكامل الأنواع، بأنّ خلق الإنسان يرجع إلى أنواع سافلة، وهي تنتهي أخيراً إلى الماء والطين، إلاّ أنّ ظاهر الآية ينفي وجود أنواع اُخرى من الموجودات الحيّة - وهم يدّعون أنّها أنواع لا تحصى - تفصل بين آدم والطين، بل إنّ خلق الإنسان قد تمّ من الطين مباشرة وبدون واسطة. ولم يتحدّث القرآن عن أنواع الكائنات الحيّة الاُخرى. وهذا المعنى يتّضح أكثر عند ملاحظة الآية ( رقم 59) من سورة آل عمران، حيث تقول: (إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب). ويقول في الآية ( رقم 26) من سورة الحجر: (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون). ويستفاد من مجموع الآيات أنّ خلق آدم قد تكوّن من التراب والطين كخلق مستقل، ومن المعلوم أنّ فرضية تطور الأنواع لم تكن مسألة علمية قطعية لنحاول تفسير الآيات أعلاه بشكل آخر بسبب تضادّها وتعارضها مع هذه الفرضية، وبتعبير آخر: طالما لا توجد قرينة واضحة على خلاف ظواهر الآيات فيجب أن نطبّقها بمعناها الظاهر، وكذلك الحال في مورد خلق آدم المستقلّ. ثمّ تشير الآية بعدها، إلى خلق نسل الإنسان، وكيفية تولّد أولاد آدم في مراحل، فتقول: (ثمّ جعل نسله من سلالة من ماء مهين). "جعل" هنا بمعنى الخلق، و "النسل": بمعنى الأولاد والأحفاد في جميع المراحل. "السلالة" في الأصل، بمعنى العصارة الخالصة لكلّ شيء، والمراد منها هنا نطفة الإنسان التي تعتبر عصارة كلّ وجوده، ومبدأ حياة وتولّد الذريّة وإستمرار النسل. إنّ هذا السائل الذي يبدو تافهاً لا قيمة له ولا مقدار فإنّه يعدّ من الناحية البنائية والخلايا الحيوية التي تسبح فيه، وكذلك تركيب السائل الخاصّ الذي تسبح فيه الخلايا رقيقاً ودقيقاً ومعقّداً إلى أبعد الحدود، ويعتبر من آيات عظمة الله سبحانه، وعلمه وقدرته. وكلمة "مهين" التي تعني الضعيف إشارة إلى وضعه الظاهري، وإلاّ فإنّه من أعمق أسرار الموجودات. ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ أحكمه وأتقنه أو علم كيف يخلقه ﴿خَلَقَهُ﴾ بدل اشتمال من كل شيء ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ﴾ آدم ﴿مِن طِينٍ﴾.