ثمّ أشارت الآية الثّانية إلى أوصاف هؤلاء الاُخرى، فقالت: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)(4) فيقومون في الليل، ويتّجهون إلى ربّهم ومحبوبهم ويشرعون بمناجاته وعبادته.
نعم... إنّ هؤلاء يستيقظون ويحيون قدراً من الليل في حين أنّ عيون الغافلين تغطّ في نوم عميق، وحينما تتعطّل برامج الحياة العادية، وتقلّ المشاغل الفكرية إلى أدنى مستوى، ويعمّ الهدوء والظلام كلّ الأرجاء، ويقلّ خطر التلوّث بالرياء في العبادة، والخلاصة: عند توفّر أفضل الظروف لحضور القلب، فإنّهم يتّجهون بكلّ وجودهم إلى معبودهم، ويطأطئون رؤوسهم عند أعتاب معشوقهم، ويخبرونه بما في قلوبهم، فهم أحياء بذكره، وكؤوس قلوبهم طافحة بحبّه وعشقه.
ثمّ تضيف: (يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً).
وهنا تذكر الآية صفتين اُخريين لهؤلاء هما: "الخوف" و "الرجاء"، فلا يأمنون غضب الله عزّوجلّ، ولا ييأسون من رحمته، والتوازن بين الخوف والرجاء هو ضمان تكاملهم وتوغّلهم في الطريق إلى الله سبحانه، والحاكم على وجودهم دائماً، لأنّ غلبة الخوف تجرّ الإنسان إلى اليأس والقنوط، وغلبة الرجاء تغري الإنسان وتجعله في غفلة، وكلاهما عدوّ للإنسان في سيره التكاملي إلى الله سبحانه.
وثامن صفاتهم، وآخرها في الآية أنّهم (وممّا رزقناهم ينفقون).
فهم لا يهبون من أموالهم للمحتاجين وحسب، بل ومن علمهم وقوّتهم وقدرتهم ورأيهم الصائب وتجاربهم ورصيدهم الفكري، فيهبون منها ما يحتاج إليه الغير.
إنّهم ينبوع من الخير والبركة، وعين فوّارة من ماء الصالحات العذب الصافي الذي يروي العطاشى، ويغني المحتاجين بحسب إستطاعتهم.
نعم... إنّ أوصاف هؤلاء مجموعة من العقيدة الرصينة الثابتة، والإيمان القويّ والعشق الملتهب لله، والعبادة والطاعة، والسعي والحركة الدؤوبة، ومعونة عباد الله في كلّ المجالات.
﴿تَتَجَافَى﴾ ترتفع وتتنحى ﴿جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ الفرش ومواضع الاضطجاع للتهجد أي صلاة الليل ﴿يَدْعُونَ﴾ داعين ﴿رَبَّهُمْ خَوْفًا﴾ من عذابه ﴿وَطَمَعًا﴾ في رحمته ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ في سبيل الخير وقيل نزلت في الذين لا ينامون حتى يصلون العتمة.