وتطرّقت الآية التالية إلى النقطة التي تقابل هؤلاء، فتقول: (وأمّا الذين فسقوا فمأواهم النار) فهؤلاء مخلّدون في هذا المكان المرعب بحيث أنّهم (كلّما أرادوا أن يخرجوا منها اُعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذّبون).
مرّة اُخرى نرى هنا العذاب الإلهي قد جعل في مقابل "الكفر والتكذيب"، والثواب والجزاء في مقابل "العمل"، وهذا إشارة إلى أنّ الإيمان لا يكفي لوحده، بل يجب أن يكون حافزاً وباعثاً على العمل، إلاّ أنّ الكفر كاف لوحده للعذاب، وإن لم يرافقه ويقترن به عمل.
بحث
أصحاب الليل!
ورد لجملة: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) تفسيران في الروايات الإسلامية:
أحدهما: تفسيرها بصلاة "العشاء"، وهو يشير إلى أنّ المؤمنين الحقيقيين لا ينامون بعد صلاة المغرب وقبل صلاة العشاء مخافة أن يغلب عليهم النوم فتفوتهم صلاة العشاء (لأنّ المعتاد في ذلك الزمان أنّهم كانوا يستريحون في أوّل الليل - وكانوا يفرّقون بين صلاتي المغرب والعشاء، طبقاً لإستحباب التفريق بين الصلوات الخمس، وكانوا يؤدّون كلا منهما في وقت فضيلتها) فربّما لم يستيقظوا لصلاة العشاء إذا ما ناموا بعد صلاة المغرب مباشرةً.
وقد روى هذا التّفسير ابن عبّاس عن النّبي (ص) طبقاً لنقل الدرّ المنثور، وكذلك روي في أمالي الصدوق عن الإمام الصادق (ع)(10).
وثانيهما: أنّها فسّرت بالقيام والنهوض من النوم والمضجع لأداء صلاة الليل في أغلب الرّوايات وكلمات المفسّرين:
ففي رواية عن الإمام الباقر (ع) أنّه قال لأحد أصحابه: "ألا اُخبرك بالإسلام أصله وفرعه وذروة سنامه"؟ قال: بلى، جعلت فداك، قال: "أمّا أصله فالصلاة، وفرعه الزكاة، وذروة نسامه الجهاد"!
ثمّ قال: "إن شئت أخبرتك بأبواب الخير"؟ قال: نعم جعلت فداك، قال: "الصوم جنّة، والصدقة تذهب بالخطيئة، وقيام الرجل في جوف الليل بذكر الله، ثمّ قرأ: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)(11).
وروي في (تفسير مجمع البيان) عن معاذ بن جبل، قال: بينما نحن مع رسول الله (ص) في غزوة تبوك، وقد أصابنا الحرّ فتفرّق القوم، فإذا رسول الله (ص) أقربهم منّي، فدنوت منه، فقلت: يارسول الله، أنبئني بعمل يدخلني الجنّة، ويباعدني من النار، قال: "لقد سألت عن عظيم وإنّه ليسير على من يسّره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدّي الزكاة المفروضة، وتصوم شهر رمضان".
قال: "وإن شئت أنبأتك بأبواب الخير" قال: قلت: أجل يارسول الله، قال: "الصوم جنّة، والصدقة تكفّر الخطيئة، وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله" ثمّ قرأ هذه الآية (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)(12).
وبالرغم من عدم وجود المانع من أن يكون للآية معنى واسعاً يشمل البقاء على اليقظة في أوّل الليل لصلاة العشاء، إضافةً إلى النهوض في السحر لصلاة الليل، إلاّ أنّ الدقّة في مفهوم (تتجافى) تعكس المعنى الثّاني في الذهن أكثر، لأنّ ظاهر الجملة أنّ الجنوب قد إضطجعت وهدأت في المضاجع، ثمّ تجافت وإبتعدت عنها، وهذا يناسب القيام آخر الليل لأداء الصلاة، وبناءً على هذا فإنّ المجموعة الاُولى من الروايات من قبيل شمولية المفهوم وإلغاء الخصوصية.
وبالرغم من أنّ هذه الروايات القليلة تبدو كافية حول أهميّة هذه الصلاة المباركة، إلاّ أنّ الروايات الإسلامية قد أولت هذه العبادة إهتماماً عظيماً قلّ أن تحدّثت بهذا المقدار عن عبادة اُخرى.
لقد اهتمّ أنصار الحقّ ومحبّوه وسالكو طريق الفضيلة كثيراً بهذه العبادة الخالية من الرياء، والتي تنير القلب وتصفّيه من كلّ الشوائب.
ومن الممكن أن لا يوفّق البعض إلى هذه العبادة المباركة دائماً، ولكن ما المانع من أن يسعى الفرد إلى نيل هذا التوفيق في بعض الليالي، وفي الوقت الذي يرخي الليل سدوله، وتهدأ الأصوات وتنام العيون يكون الجوّ مهيئاً لحضور القلب، يهبّ إلى مناجاة الله وينوّر قلبه بنور عشق الحبيب ومحبّته(13).
(وأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا﴾ فسر في الحج ﴿وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾.