ولمّا لم تنفع أيّة وسيلة من وسائل التوعية والتنبيه، حتّى العذاب الإلهي، لم يبق طريق إلاّ إنتقام الله من هؤلاء القوم الذين هم أظلم الناس، وكذلك تقول الآية التالية: (ومن أظلم ممّن ذكّر بآيات ربّه ثمّ أعرض عنها إنّا من المجرمين منتقمون).
فلم تؤثّر فيهم النعمة الإلهيّة، ولا العذاب والإبتلاءات التحذيرية، وعلى هذا فلا أحد أظلم منهم، وإذا لم يُنتقم من هؤلاء فمّمن الإنتقام؟
من الواضح - وبملاحظة الآيات السابقة - أنّ المراد من "المجرمين" هنا هم منكرو المبدأ والمعاد الذين لا إيمان لهم.
وقد وصف جماعة من الناس في آيات القرآن مراراً بأنّهم (أظلم) من الباقين، وبالرغم من تعبيراتها المختلفة إلاّ أنّها تعود جميعاً إلى أصل الكفر والشرك، وبناءً على هذا فإنّ معنى (أظلم) الذي يعتبر صيغة تفضيل يتطابق مع هذه المصاديق.
والتعبير بـ (ثمّ) في الآية، والذي يدلّ عادةً على التراخي، لعلّه إشارة إلى أنّ أمثال هؤلاء يُعطون فرصة ومجالا كافياً للتفكير والبحث، ولا تكون معاصيهم الإبتدائية سبباً لإنتقام الله أبداً، إلاّ أنّهم سيستحقّون إنتقام الله عزّوجلّ بعد إنتهاء الفرصة اللازمة.
ويجب الإلتفات إلى أنّ التعبير بـ "الإنتقام" يعني العقوبة في لسان العرب، ومع أنّ معنى الكلمة أصبح في المحادثات اليومية يعني تشفّي القلب وإبراد الغليل من العدو، إلاّ أنّ هذا المعنى لا وجود له في الأصل اللغوي، ولذلك فإنّ هذا التعبير قد إستعمل مراراً في شأن الله عزّوجلّ في القرآن المجيد، في حين أنّه سبحانه أسمى وأعلى من هذه المفاهيم، فهو لا يفعل شيئاً إلاّ وفق الحكمة.
﴿وَمَنْ عَنْهَا﴾ أي لا أحد ﴿أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ﴾ فلم يتدبرها ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ﴾.