ولمّا كانوا بنوا إسرائيل - كسائر الاُمم - قد إختلفوا بعد هؤلاء الأئمّة الحقيقيين، وسلكوا مسالك مختلفة، فإنّ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث تقول بلحن التهديد: (إنّ ربّك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون).
أجل... إنّ مصدر ومنبع الإختلاف دائماً هو مزج الحقّ بالأهواء والميول، ولمّا كانت القيامة يوماً لا معنى فيه للأهواء والميول، حيث تمحى ويتجلّى الحقّ بأجلى صوره، فهناك ينهي الله سبحانه الإختلافات بأمره، وهذه أيضاً إحدى فلسفات المعاد.
تأمّلوا ذلك.
ملاحظة
صمود وإستقامة القادة الإلهيين
قلنا: إنّه قد ذكر في الآيات مورد البحث شرطان للأئمّة: الأوّل: الصبر والثبات، والآخر: الإيمان واليقين بآيات الله.
ولهذا الصبر والثبات فروعاً وأشكالا كثيرة:
فيكون أحياناً أمام المصائب التي تحلّ بالإنسان.
واُخرى مقابل الأذى الذي يحيق بأصحابه ومؤيّديه.
وثالثة في مقابل التعديّات والألسن البذيئة التي تنال مقدّساته.
واُخرى في مقابل المنحرفين فكرياً.
واُخرى أمام الجاهلين الحمقى.
واُخرى أمام العلماء الخبثاء.
والخلاصة: فإنّ القائد الواعي الرشيد يجب أن يصمد أمام كلّ هذه المشاكل وغيرها، ولا ينسحب من ميدان الصراع والحوادث، ولا يجزع وييأس، ولا يفقد زمام الاُمور من يده، ولا يضطرب ولا يندم حتّى يحقّق هدفه الكبير.
وقد روي في هذا الباب حديث جامع ورائع عن الإمام الصادق (ع) حيث قال لأحد أصحابه: إنّ من صبر صبر قليلا (وبعده الظفر) وإنّ من جزع جزع قليلا (ومن بعده الخسران).
ثمّ قال: عليك بالصبر في جميع اُمورك، فإنّ الله عزّوجلّ بعث محمّداً فأمره بالصبر والرفق; فقال: (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلا) وقال: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه ولي حميم وما يلقّاها إلاّ الذين صبروا وما يلقّاها إلاّ ذو حظّ عظيم).
فصبر رسول الله حتّى نالوه بالعظائم ورموه بها - فسمّوه ساحراً ومجنوناً وشاعراً، وكذّبوه في دعوته - فضاق صدره، فأنزل الله عزّوجلّ عليه: (ولقد نعلم أنّك يضيق صدرك بما يقولون فسبّح بحمد ربّك وكن من الساجدين) - أي إنّ هذه العبادة تمنحك الإطمئنان والهدوء -.
ثمّ كذّبوه ورموه فحزن لذلك، فأنزل الله عزّوجلّ: (قد نعلم انّه ليحزنك الذي يقولون فإنّهم لا يكذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون.
ولقد كذّبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذّبوا واُوذوا حتّى أتاهم نصرنا).
فألزم النّبي نفسه الصبر، فتعدّوا فذكروا الله تبارك وتعالى وكذّبوه، فقال: قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي، فأنزل الله عزّوجلّ: (واصبر على ما يقولون)، فصبر النّبي في جميع أحواله.
ثمّ بُشّر في عترته بالأئمّة ووصفوا بالصبر، فعند ذلك قال: الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، فشكر الله عزّوجلّ ذلك له، فأباح له قتال المشركين، فقتلهم الله على يدي رسول الله وأحبّائه، وجعل له ثواب صبره مع ما ادّخر له في الآخرة".
ثمّ أضاف الإمام الصادق (ع): "فمن صبر واحتسب لم يخرج من الدنيا حتّى يقرّ الله له عينه في أعدائه مع ما يدّخر له في الآخرة"(5).
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ فيميز المحق من المبطل ﴿فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ من أمر الدين.