وتشير الآية التالية إلى أحد أهمّ النعم الإلهية التي هي أساس عمران كلّ البلدان، ووسيلة حياة كلّ الكائنات الحيّة، ليتّضح من خلالها أنّ الله سبحانه كما يمتلك القدرة على تدمير بلاد الضالّين المجرمين، فإنّه قادر على إحياء الأراضي المدمّرة والميّتة، ومنح عباده كلّ نوع من المواهب، فتقول: (أو لم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون).
"الجُرُز" تعني الأرض القاحلة التي لا ينبت فيها شيء قطّ، وهي في الأصل من مادّة (جَرَزْ) على وزن (مرض) بمعنى "القطع"، فكأنّ النباتات قد اجتثّت من مثل هذه الأرض، أو أنّ الأرض نفسها قد قطعت تلك النباتات.
والطريف هنا أنّه قد عُبّر بـ: (نسوق الماء) وهو إشارة إلى طبيعة الماء توجب - بحكم ثقله - أن يكون على الأرض وفي المنخفضات، وبحكم كونه مائعاً يجب أن ينزل إلى أعماق الأرض، إلاّ أنّه عندما يصله أمرنا يفقد طبيعته، ويتحوّل إلى بخار خفيف يتحرّك إلى كلّ الجهات بهبوب النسيم.
نعم، إنّ هذه السحب السابحة في السماء بحار كبيرة من المياه العذبة تُرسل إلى الأراضي اليابسة بأمر الله ومعونة الرياح.
والواقع أنّه لولا المطر فإنّ كثيراً من الأراضي لا ترى حتّى القطرة الواحدة من الماء، وإذا إفترضنا أنّ هناك أنهاراً غزيرة المياة فانّ تلك المياه لا تصل إلى أغلب الأراضي، إلاّ أنّنا نرى أنّه ببركة هذه الرحمة الإلهيّة قد نبتت ونمت الأعشاب والغابات والأشجار الكثيرة جدّاً على قمم كثير من الجبال والوديان الوعرة والتلال المرتفعة، وهذه القدرة العجيبة للمطر على الري لا يستطيع القيام بها شيء آخر.
"زرعاً" له هنا معنى واسعاً يشمل كلّ أنواع العشب والشجر، وإن كان يستعمل أحياناً في مقابل الشجر.
ويمكن أن يكون تقديم الدوابّ والأنعام على البشر في هذه الآية لأنّ تغذية الحيوانات تعتمد على النبات، في حين أنّ البشر يتغذّى على النبات وعلى لحوم الحيوانات.
أو من جهة أنّ النبات بمجرّد نموّه يصبح غذاء للحيوانات، وتستطيع الإستفادة منه وهضمه، في حين أنّ إستفادة الإنسان من النباتات، تتأخّر حتّى تحمل الشجرة وتنضج الثمرة.
والطريف هنا أنّ جملة: (أفلا يبصرون) قد وردت في نهاية الآية مورد البحث، في حين أنّ الآية السابقة التي كانت تتحدّث عن أطلال قصور الأقوام الغابرة قد ختمت بجملة: (أفلا يسمعون).
وعلّة هذا الإختلاف هو أنّ الجميع يرون باُمّ أعينهم منظر الأراضي الميّتة وهي تحيا على أثر نزول الأمطار ونموّ نباتها وينع ثمرها، في حين أنّهم يسمعون المسائل المرتبطة بالأقوام السابقين كإخبار غالباً.
ويستفاد من مجموع الآيتين أعلاه أنّ الله تعالى يقول لهؤلاء العصاة المتمردّين: انتبهوا جيّداً، وافتحوا عيونكم وأسماعكم، فاسمعوا الحقائق، وانظروا إليها، وتفكّروا كيف أمرنا الرياح يوماً أن تحطّم قصور قوم عاد ومساكنهم وتجعلها أطلالا وآثاراً، وفي يوم آخر نأمر ذات الرياح أن تحمل السحاب الممطر إلى الأراضي الميّتة البور لتحيي تلك الأراضي وتجعلها خضراء نضرة، ألا تستسلمون وتذعنون لهذه القدرة؟!
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ﴾ التي جرز بناؤها أي قطع وأذهب لا ما لا ينبت بدليل ﴿فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ﴾ كالعصف ﴿وَأَنفُسُهُمْ﴾ كالحب ﴿أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾ فيعلمون كمال قدرتنا.