سبب النّزول
لقد ذكر المفسّرون هنا أسباب نزول مختلفة، تبحث كلّها تقريباً موضوعاً واحداً.
ومن جملتها: إنّ هذه الآيات نزلت في شأن أبي سفيان وبعض آخر من رؤوس الكفر والشرك الذين أخذوا الأمان من الرّسول الأكرم (ص) بعد معركة أُحد ودخلوا المدينة، وأتوا مع عبدالله بن أُبي وجماعة من أصحابه، إلى النّبي (ص)، وقالوا: يامحمّد، لا تذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة بسوء وقل: إنّ لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربّك، فشقّ ذلك على رسول الله (ص)، فقال عمر بن الخطّاب: ائذن لنا - يارسول الله - في قتلهم، فقال النّبي (ص): "إنّي أعطيتهم الأمان" وأمر فأُخرجوا من المدينة ونزلت الآية: (ولا تطع الكافرين) وأمرته أن لا يصغي لمثل هذه الإقتراحات(1).
التّفسير
اتّبع الوحي الإلهي فقط:
إنّ من أخطر المنعطفات والمنحدرات التي تعترض طريق القادة الكبار قضيّة إقتراحات الصلح والتنازل والوفاق التي تطرح من قبل المخالفين، وتضع الخطوط الملتوية والطرق المنحرفة إلى جانب طريق القادة، وتسعى لحرفهم عن مسيرهم الأصلي، وهذا إمتحان صعب وعسير لهؤلاء.
لقد بذل مشركو "مكّة" ومنافقو "المدينة" كلّ ما في وسعهم ليحرّفوا الرّسول الأكرم (ص) عن خطّ التوحيد من خلال طرح مقترحات السلام والإتّفاق، ومن جملتها ما قرأناه في سبب النّزول، إلاّ أنّ أُولى آيات سورة الأحزاب نزلت فأنهت مؤامراتهم، ودعت النّبي (ص) إلى الإستمرار في اُسلوبه الحاسم في خطّ "التوحيد" بدون أدنى تراجع وتنازل ومسالمة.
إنّ هذه الآيات بمجموعها تأمر النّبي (ص) بأربعة أوامر مهمّة:
الأوّل: في مجال التقوى، والتي تهيّء الأرضية لكلّ برنامج آخر، فتقول: (ياأيّها النّبي اتّق الله).
إنّ حقيقة التقوى هي ذلك الإحساس الداخلي بالمسؤولية، ولولا هذا الإحساس فإنّ الإنسان لا يندفع ولا يتحرّك باتّجاه أي برنامج بنّاء.
التقوى هي الهدف الأسمى للهداية والإنتفاع بآيات الله، كما جاء في الآية الثّانية من سورة البقرة: (هدىً للمتّقين).
صحيح أنّ المرحلة النهائية للتقوى تحصل بعد الإيمان والعمل طبق أوامر الله سبحانه، إلاّ أنّ مرحلتها الإبتدائية تقع قبل كلّ هذه المسائل، لأنّ الإنسان إذا لم يحسّ بالمسؤولية داخلياً، فإنّه لا يسعى للتحقّق من دعوة الأنبياء والتثبّت منها، ولا يصغي إليها، وحتّى مسألة (دفع الضرر المحتمل) التي عدّها علماء الكلام والعقائد أساس ودعامة السعي إلى معرفة الله، فإنّها في الحقيقة فرع التقوى.
الثّاني: نفي ورفض طاعة الكافرين: (ولا تطع الكافرين والمنافقين) وتقول الآية في النهاية تأكيداً لهذا الموضوع: (إنّ الله كان عليماً حكيماً) فإنّه تعالى حينما يأمرك بعدم إتّباع هؤلاء، فإنّ ذلك صادر عن حكمته اللامتناهية، لأنّه يعلم ما اُخفي في هذ الإتّباع والمهادنة من المصائب، الأليمة، والمفاسد الجمّة.
وعلى كلّ حال، فإنّ أوّل وظيفة بعد التقوى والإحساس بالمسؤولية، هي غسل القلب وتصفيته من الغير، وإقتلاع الأشواك الضارّة المؤذية من هذه الأرض المعنوية.
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ نداء تعظيم ﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾ اثبت على تقواه ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ قالوا له ارفض ذكر آلهتنا وندعك وربك فنزلت ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا﴾ بالصواب ﴿حَكِيمًا﴾ في التدبير.