التّفسير
دور المؤمنين المخلصين في معركة الأحزاب:
يستمرّ الكلام إلى الآن عن الفئات المختلفة ومخطّطاتهم وأدوارهم في غزوة الأحزاب، وقد تقدّم الكلام عن ضعفاء الإيمان والمنافقين ورؤوس الكفر والنفاق والمعوّقين عن الجهاد.
ويتحدّث القرآن المجيد في نهاية المطاف عن المؤمنين الحقيقيين، ومعنوياتهم العالية ورجولتهم وثباتهم وسائر خصائصهم في الجهاد الكبير.
ويبدأ مقدّمة هذا البحث بالحديث عن النّبي الأكرم (ص)، حيث كان إمامهم وقدوتهم، فيقول: (لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً).
فإنّ النّبي (ص) خير نموذج لكم، لا في هذا المجال وحسب، بل وفي كلّ مجالات الحياة، فإنّ كلاًّ من معنوياته العالية، وصبره وإستقامته وصموده، وذكائه ودرايته، وإخلاصه وتوجّهه إلى الله، وتسلّطه وسيطرته على الحوادث، وعدم خضوعه وركوعه أمام الصعاب والمشاكل، نموذج يحتذي به كلّ المسلمين.
إنّ هذا القائد العظيم لا يدع للضعف والعجلة إلى نفسه سبيلا عندما تحيط بسفينته أشدّ العواصف، وتعصف بها الأمواج المتلاطمة، فهو ربّان السفينة، ومرساها المطمئن الثابت، وهو مصباح الهداية، ومبعث الراحة والهدوء والإطمئنان الروحي لركابها.
إنّه يأخذ المعول بيده ليحفر الخندق مع بقيّة المؤمنين، فيجمع ترابه بمسحاة ويخرجه بوعاء معه، ويمزح مع أصحابه لحفظ معنوياتهم والتخفيف عنهم، ويرغّبهم في إنشاد الشعر الحماسي لإلهاب مشاعرهم وتقوية قلوبهم، ويدفعهم دائماً نحو ذكر الله تعالى ويبشّرهم بالمستقبل الزاهر والفتوحات العظيمة.
يحذّرهم من مؤامرات المنافقين، ويمنحهم الوعي والإستعداد اللازم.
ولا يغفل لحظة عن التجهيز والتسلّح الحربي الصحيح، وإنتخاب أفضل الأساليب العسكرية، ولا يتوانى في الوقت نفسه عن إكتشاف الطرق المختلفة التي تؤدّي إلى بثّ التفرقة وإيجاد التصدّع في صفوف الأعداء.
نعم... إنّه أسمى مقتدى، وأحسن اُسوة للمؤمنين في هذا الميدان، وفي كلّ الميادين.
"الاُسوة" تعني في الأصل الحالة التي يتلبّسها الإنسان لدى اتّباعه لآخر، وبتعبير آخر: هي التأسّي والإقتداء، وبناءً على هذا فإنّ لها معنى المصدر لا الصفة، ومعنى جملة: (لقد كان لكم في رسول الله اُسوة حسنة) هو أنّ لكم في النّبي (ص)تأسّياً وإقتداءً جيّداً، فإنّكم تستطيعون بالإقتداء به واتباعه أن تصلحوا اُموركم وتسيروا على الصراط المستقيم.
والطريف أنّ القرآن الكريم يعتبر هذه الاُسوة الحسنة في الآية أعلاه مختّصة بمن لهم ثلاث خصائص: الثقة بالله، والإيمان بالمعاد، وأنّهم يذكرون الله كثيراً.
إنّ الإيمان بالمبدأ والمعاد هو سبب وباعث هذه الحركة في الحقيقة، وذكر الله يعمل على إستمراره، إذ لا شكّ أنّ من لم يمتليء قلبه بهكذا إيمان لا يقدر أن يضع قدمه موضع قدم النّبي، وإذا لم يُدم ذكر الله ويعمّر قلبه به أثناء إستمراره في هذا الطريق، ويبعد الشياطين عنه، فسوف لا يكون قادراً على إدامة التأسّي والإقتداء.
وتجدر الإشارة إلى أنّ علياً (ع) مع شهامته وشجاعته في كلّ ميادين الحرب، والتي تمثّل معركة الأحزاب نموذجاً منها، وسيشار إليها فيما بعد، يقول في نهج البلاغة فيما روي عنه: "كنّا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول الله (ص) فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه"(1).
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ أي هو قدوة يحسن التأسي به في الثبات في الحرب وغيره ﴿لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ﴾ يأمل ثوابه ويخاف عقابه ﴿وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ أي المقتدي بالرسول هو الراجي المواظب على الذكر.