لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ثمّ يصدر الأمر الثالث في باب رعاية العفّة، فيقول: (وقرن في بيوتكنّ ولا تبرّجن تبرّج الجاهلية الاُولى). "قرن" من مادّة الوقار، أي الثقل، وهو كناية عن إلتزام البيوت. وإحتمل البعض أن تكون من مادّة (القرار)، وهي لا تختلف عن المعنى الأوّل كثيراً(1). و "التبرّج" يعني الظهور أمام الناس، وهو مأخوذ من مادّة (برج)، حيث يبدو ويظهر لأنظار الجميع. لكن ما هو المراد من "الجاهلية"؟ الظاهر أنّها الجاهلية التي كانت في زمان النّبي (ص)، ولم تكن النساء محجّبات حينها كما ورد في التواريخ، وكنّ يلقين أطراف خمرهن على ظهورهنّ مع إظهار نحورهنّ وجزء من صدورهنّ وأقراطهنّ وقد منع القرآن الكريم أزواج النّبي من مثل هذه الأعمال. ولا شكّ أنّ هذا الحكم عامّ، والتركيز على نساء النّبي من باب التأكيد الأشدّ، تماماً كما نقول لعالم: أنت عالم فلا تكذب، فلا يعني هذا أنّ الكذب مجاز ومباح للآخرين، بل المراد أنّ العالم ينبغي أن يتّقي هذا العمل بصورة آكد. إنّ هذا التعبير يبيّن أنّ جاهلية اُخرى ستأتي كالجاهلية الاُولى التي ذكرها القرآن، ونحن نرى اليوم آثار هذا التنبّؤ القرآني في عالم التمدّن المادّي، إلاّ أنّ المفسّرين القدامى لم يتنبّؤوا ويعلموا بمثل هذا الأمر، لذلك فقد جهدوا في تفسير هذه الكلمة، ولذلك اعتبر البعض منهم الجاهلية الاُولى هي الفاصلة بين "آدم" و "نوح"، أو الفاصلة بين عصر "داود" و "سليمان" حيث كانت النساء تخرج بثياب يتّضح منها البدن، وفسّروا الجاهلية العربية قبل الإسلام بالجاهلية الثّانية! ولكن لا حاجة إلى هذه الكلمات كما قلنا، بل الظاهر أنّ الجاهلية الاُولى هي الجاهلية قبل الإسلام، والتي اُشير إليها في موضع آخر من القرآن الكريم - في الآية (143) من سورة آل عمران، والآية ( رقم 50) من سورة المائدة، والآية ( رقم 26) من سورة الفتح - والجاهلية الثّانية هي الجاهلية التي ستكون فيما بعد، كجاهلية عصرنا. وسنبسط الكلام حول هذا الموضوع في بحث الملاحظات. وأخير يصدر الأمر الرابع والخامس والسادس، فيقول سبحانه: (وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله). إذا كانت الآية قد أكّدت على الصلاة والزكاة من بين العبادات، فإنّما ذلك لكون الصلاة أهمّ وسائل الإتّصال والإرتباط بالخالق عزّوجلّ، وتعتبر الزكاة علاقة متينة بخلق الله، وهي في الوقت نفسه عبادة عظيمة. وأمّا جملة: (أطعن الله ورسوله) فإنّه حكم كلّي يشمل كلّ البرامج الإلهية. إنّ هذه الأوامر الثلاثة تشير إلى أنّ الأحكام المذكورة ليست مختّصة بنساء النّبي، بل هي للجميع، وإن أكّدت عليهنّ. ويضيف الله سبحانه في نهاية الآية: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً). إنّ التعبير بـ (إنّما) والذي يدلّ على الحصر عادةً - دليل على أنّ هذه المنقبة خاصّة بأهل بيت النّبي (ص). وجملة (يريد) إشارة إلى إرادة الله التكوينية، وإلاّ فإنّ الإرادة التشريعية - وبتعبير آخر لزوم تطهير أنفسهم - لا تنحصر بأهل بيت النّبي(ص)، فإنّ كلّ الناس مكلّفون بأن يتطهّروا من كلّ ذنب ومعصية. من الممكن أن يقال: إنّ الإرادة التكوينية توجب أن يكون ذلك جبراً، إلاّ أنّ جواب ذلك يتّضح من ملاحظة البحوث التي أوردناها في مسألة كون الأنبياء والأئمّة معصومين، ويمكن تلخيص ذلك هنا بأنّ للمعصومين أهلية إكتسابية عن طريق أعمالهم، ولهم لياقة ذاتية موهوبة لهم من قبل الله سبحانه، ليستطيعوا أن يكونوا اُسوة للناس. وبتعبير آخر فإنّ المعصومين نتيجة للرعاية الإلهية وأعمالهم الطاهرة، لا يقدمون على المعصية مع إمتلاكهم القدرة والإختيار في إتيانها، تماماً كما لا نرى عاقلا يرفع جمرة من النار ويضعها في فمّه، مع أنّه غير مجبر ولا مكره على الإمتناع عن هذا العمل، فهذه الحالة تنبعث من أعماق وجود الإنسان نتيجة المعلومات والإطلاع، والمبادىء الفطرية والطبيعية، من دون أن يكون في الأمر جبر وإكراه. ولفظة "الرجس" تعني الشيء القذر، سواء كان نجساً وقذراً من ناحية طبع الإنسان، أو بحكم العقل أو الشرع، أو جميعها(2). وما ورد في بعض الأحيان من تفسير "الرجس" بالذنب أو الشرك أو البخل والحسد، أو الإعتقاد بالباطل، وأمثال ذلك، فإنّه في الحقيقة بيان لمصاديقه، وإلاّ فإنّ مفهوم هذه الكلمة عامّ وشامل لكلّ أنواع الحماقات بحكم (الألف واللام) التي وردت هنا، والتي تسمّى بألف ولام الجنس. و "التطهير" الذي يعني إزالة النجس، هو تأكيد على مسألة إذهاب الرجس ونفي السيّئات، ويعتبر ذكره هنا بصيغة المفعول المطلق تأكيداً آخر على هذا المعنى. وأمّا تعبير (أهل البيت) فإنّه إشارة إلى أهل بيت النّبي (ص) باتّفاق علماء الإسلام والمفسّرين، وهو الشيء الذي يُفهم من ظاهر الآية، لأنّ البيت وإن ذكر هنا بصيغة مطلقة، إلاّ أنّ المراد منه بيت النّبي (ص) بقرينة الآيات السابقة واللاحقة(3). إلاّ أنّ هناك إختلافاً في المقصود بأهل بيت النّبي هنا؟ إعتقد البعض أنّ هذا التعبير مختّص بنساء النّبي، لأنّ الآيات السابقة واللاحقة تتحدّث حول أزواج رسول الله (ص)، فاعتبروا ذلك قرينة على مدّعاهم. غير أنّ الإنتباه إلى مسألة في الآية ينفي هذا الإدّعاء، وهي: أنّ الضمائر التي وردت في الآيات السابقة واللاحقة، جاءت بصيغة ضمير النسوة، في حين أنّ ضمائر هذه القطعة من الآية قد وردت بصيغة جمع المذكر، وهذا يوحي بأنّ هناك معنى آخر هو المراد، ولذلك خطا جمع آخر من المفسّرين خطوة أوسع وإعتبر الآية شاملة لكلّ أفراد بيت النّبي (ص) رجالا ونساءً. ومن جهة اُخرى فإنّ الرّوايات الكثيرة جدّاً الواردة في كتب الفريقين تنفي شمول الآية لكلّ أهل بيت النّبي (ص)، وتقول: إنّ المخاطبين في الآية هم خمسة أفراد فقط، وهم: محمّد (ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (ع) ومع وجود النصوص الكثيرة التي تعتبر قرينة على تفسير الآية، فإنّ التّفسير الذي يمكن قبوله هو التّفسير الثالث فقط، أي إختصاص الآية بالخمسة الطيّبة. والسؤال الوحيد الذي يبقى هنا هو: كيف يمكن أن يطرح مطلب في طيّات البحث في واجبات نساء النّبي ولا يشملهنّ هذا المطلب؟ وقد أجاب المفسّر الكبير العلاّمة "الطبرسي" في مجمع البيان عن هذا السؤال فقال: ليست هذه المرّة الاُولى التي نرى فيها في آيات القرآن أن تتّصل مع بعضها وتتحدّث عن مواضيع مختلفة، فإنّ القرآن مليء بمثل هذه البحوث، وكذلك توجد شواهد كثيرة على هذا الموضوع في كلام فصحاء العرب وأشعارهم. وأضاف المفسّر الكبير صاحب الميزان جواباً آخر ملخّصه: لا دليل لدينا على أنّ جملة: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس...) قد نزلت مع هذه الآيات، بل يستفاد جيّداً من الرّوايات أنّ هذه القطعة قد نزلت منفصلة، وقد وضعها الإمام مع هذه الآيات لدى جمعه آيات القرآن في عصر النّبي (ص) أو بعده. والجواب الثالث الذي يمكن أن يجاب به عن هذا السؤال هو: أنّ القرآن يريد أن يقول لزوجات النّبي: إنكنّ بين عائلة بعضها معصومون، والذي يعيش في ظلّ العصمة ومنزل المعصومين فإنّه ينبغي له أن يراقب نفسه أكثر من الآخرين، ولا تنسين أنّ انتسابكنّ إلى بيت فيه خمسة معصومين يلقي على عاتقكنّ مسؤوليات ثقيلة، وينتظر منه الله وعباده إنتظارات كثيرة. وسنبحث في الملاحظات القادمة - إن شاء الله تعالى - روايات السنّة والشيعة الواردة في تفسير هذه الآية. ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ بالكسر من قرن يقرن وقرىء بالفتح وهو لغة فيه ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ﴾ لا تظهرن زينتكن للرجال ﴿تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ تبرجا مثل تبرج النساء الجاهلية القديمة وهو زمان ولادة إبراهيم أو ما بين آدم ونوح والأخرى ما بين عيسى ومحمد وقيل الأولى جاهلية الكفر والأخرى جاهلية الفسق في الإسلام وروي أنها صفراء بنت شعيب خرجت على يوشع ﴿وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ في أوامره ونواهيه ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ﴾ الذنب ﴿أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) نداء أو مدح ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ﴾ من جميع المآثم ﴿تَطْهِيرًا﴾ أجمع المفسرون على نزولها في أهل العباء، وبه روايات مستفيضة ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾ من القرآن الجامع بين الأمرين ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا﴾ في تدبير خلقه ﴿خَبِيرًا﴾ بمصالحه