لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وتقول الآية الأخيرة في تكميل المباحث السابقة: (ما كان على النّبي من حرج فيما فرض الله) فحيث يأمره الله سبحانه لا تجوز المداهنة في مقابل أمره تعالى، ويجب تنفيذه بدون أيّ تردّد. إنّ القادة الربانيين يجب أن لا يصغوا إلى كلام هذا وذاك لدى تنفيذ الأوامر الإلهيّة، أو يراعوا الأجواء السياسية والآداب والأعراف الخاطئة السائدة في المحيط، وربّما كان هذا الأمر قد صدر لتمزيق هذه الأعراف المغلوطة، ولتحطيم البدع القبيحة. إنّ القادة الإلهيين يجب أن ينفّذوا أمر الله بدون خوف من الملامة والعتاب والضجّة والغوغاء، وأن كونوا مصداق (ولا يخافون لومة لائم).(3) إنّنا إذا أردنا أن نجلس وننتظر رضا الجميع وسرورهم ثمّ ننفّذ أمر الله سبحانه، فلنعلم أنّ هذا الأمر لا يمكن تحقّقه، لأنّ بعض الفئات لا ترضى حتّى نستسلم لما تريد ونتّبع دينها وفكرها، كما يقول القرآن الكريم ذلك: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتّى تتّبع ملّتهم).(4) وكذلك كان الأمر في مورد الآية التي نبحثها، لأنّ زواج النّبي (ص) من زينب كان يكتنفه في أفكار الناس العامّة إشكالان كما قلنا: الأوّل: أنّ الزواج بمطلّقة المدّعى كان في نظر اُولئك كالزواج بزوجة الابن الحقيقي، وكانت هذه بدعة يجب أن تُلغى. والآخر: أنّ زواج رجل مرموق له مكانته في المجتمع كالنّبي (ص) من مطلّقة غلام محرّر كان يعدّ عيباً وعاراً، لأنّه يجعل النّبي والعبد في مرتبة واحدة، وهذه الثقافة الخاطئة كان يجب أن تقلع وتجتّث من الجذور لتُزرع مكانها القيم الإنسانية، وكون الزوجين كفؤين لبعضهما إنّما يستقيم ويقاس على أساس الإسلام والإيمان والتقوى وحسب. وأساساً فانّ مخالفة السنن والأعراف، وإقتلاع الآداب والعادات الخرافية وغير الإنسانية يقترن عادةً بالضجيج والغوغاء والصخب، وينبغي أن لا يهتمّ الأنبياء بهذا الضجيج والصخب مطلقاً، ولذلك تعقب الجملة التالية فتقول: (سنّة الله في الذين خلوا من قبل). فلست الوحيد المبتلى بهذه المشكلة، بل إنّ الأنبياء جميعاً كانوا يعانون هذه المصاعب عند مخالفتهم سنن مجتمعاتهم، وعند سعيهم لإجتثاث اُصول الأعراف الفاسدة منها. ولم تكن المشكلة الكبرى منحصرة في محاربة هاتين السنّتين الجاهليتين، بل إنّ هذا الزواج لمّا كان مرتبطاً بالنّبي (ص) فإنّه يمكن أن يعطي الأعداء حربة اُخرى ليعيبوا على النّبي (ص) فعله، ويطعنوا في دينه، وسيأتي تفصيل ذلك. ويقول الله سبحانه في نهاية الآية تثبيتاً لاتّباع الحزم في مثل هذه المسائل الأساسية: (وكان أمر الله قدراً مقدوراً). إنّ التعبير بـ (قدراً مقدوراً) قد يكون إشارة إلى كون الأمر الإلهي حتمياً، ويمكن أن يكون دالا على رعاية الحكمة والمصلحة فيه، إلاّ أنّ الأنسب في مورد الآية أن يراد منه كلا المعنيين، أي أنّ أمر الله تعالى يصدر على أساس الحساب الدقيق والمصلحة، وكذلك لابدّ من تنفيذه بدون إستفهام أو تلكّؤ. والطريف أنّنا نقرأ في التواريخ أنّ النّبي (ص) قد أولم للناس وليمة عامّة لم يكن لها نظير فيما سبق إقترانه بزوجاته(5)، فكأنّه أراد بهذا العمل أن يبيّن للناس أنّه غير قلق ولا خائف من السنن الخرافية التي كانت سائدة في تلك البيئة، بل إنّه يفتخر بتنفيذ هذا الأمر الإلهي، إضافةً إلى أنّه كان يطمح إلى أن يصل صوت إلغاء هذه السنّة الجاهلية إلى آذان جميع من في جزيرة العرب عن هذا الطريق. بحثان 1- أساطير كاذبة مع أنّ القرآن الكريم كان غاية في الصراحة في قصّة زواج النّبي الأكرم (ص)من زينب، وفي تبيان هذه المسألة، والهدف من هذا الزواج، وأعلن أنّ الهدف هو محاربة سنّة جاهلية فيما يتعلّق بالزواج من مطلّقة الإبن المدّعى، إلاّ أنّها ظلّت مورد إستغلال جمع من أعداء الإسلام، فحاولوا إختلاق قصّة غرامية منها ليشوّهوا بها صورة النّبي المقدّسة، واتّخذوا من الأحاديث المشكوك فيها أو الموضوعة في هذا الباب آلة وحربة يلوّحون بها. ومن جملة ذلك ما كتبوه من أنّ النّبي (ص) جاء إلى دار زيد ليسأل عن حاله، فما إن فتح الباب حتّى وقعت عينه على جمال زينب، فقال: "سبحان الله خالق النور! تبارك الله أحسن الخالقين" واتّخذوا هذه الجملة دليلا على تعلّق النّبي (ص)بزينب. في حين أنّ هناك دلائل واضحة - بغضّ النظر عن مسألة العصمة والنبوّة - تكذّب هذه الأساطير: الاُولى: أنّ زينب كانت بنت عمّة النّبي (ص)، وقد تربيّا وكبرا معاً في محيط عائلي تقريباً، والنّبي (ص) هو الذي خطبها بنفسه لزيد، وإذا كان لزينب ذلك الجمال الخارق، وعلى فرض أنّه استرعى إنتباهه، فلم يكن جمالها أمراً خافياً عليه، ولم يكن زواجه منها قبل هذه الحادثة أمراً عسيراً، بل إنّ زينب لم تبد أي رغبة في الإقتران بزيد، بل أعلنت مخالفتها صراحةً، وكانت ترجّح تماماً أن تكون زوجة للنبي (ص)، بحيث أنّها سرّت وفرحت عندما ذهب النّبي (ص) لخطبتها ظنّاً منها بأنّ النّبي (ص) يخطبها لنفسه، إلاّ أنّها رضخت لأمر الله ورسوله بعد نزول هذه الآية القرآنية وتزوّجت زيداً. مع هذه المقدّمات هل يبقى مجال لهذا الوهم بأنّ النّبي (ص) لم يكن عالماً بحال زينب وجمالها؟ وأيّ مجال لهذا الظنّ الخاطيء بأن يكون راغباً في الزواج منها ولا يستطيع الإقدام عليه؟ والثّانية: أنّ زيداً عندما كان يراجع النّبي (ص) لطلاق زوجته زينب، كان النّبي ينصحه مراراً بصرف النظر عن هذا الأمر، وهذا بنفسه شاهد آخر على بطلان هذه الإدّعاءات والأساطير. ومن جهة اُخرى فإنّ القرآن الكريم قد أوضح الهدف من هذا الزواج بصراحة لئلاّ يبقى مجال لأقاويل اُخرى. ومن جهة رابعة قرأنا في الآيات المذكورة أعلاه أنّ الله تعالى يقول: قد كان في حادثة زواج النّبي بمطلّقة زيد أمر كان النّبي يخشى الناس فيه، في حين أنّ خشيته من الله أحقّ من الخشية من الناس. إنّ مسألة خشية الله سبحانه توحي بأنّ هذا الزواج قد تمّ كتنفيذ لواجب شرعي، يجب عنده طرح كلّ الإعتبارات الشخصية جانباً من أجل الله تعالى ليتحقّق هدف مقدّس من أهداف الرسالة، حتّى وإن كان ثمن ذلك جراحات اللسان التي يلقيها جماعة المنافقين في اتّهاماتهم للنبي، وكان هذا هو الثمن الباهض الذي دفعه النّبي (ص) - ولا زال يدفعه إلى الآن - في مقابل طاعة أمر الله سبحانه، وإلغاء عرف خاطيء وسنّة مبتدعة. إلاّ أنّ هناك لحظات حرجة في حياة القادة المخلصين تحتّم عليهم أن يضحّوا ويعرّضوا أنفسهم فيها لاتّهام أمثال هؤلاء الأفراد ليتحقّق هدفهم! أجل... لو كان النّبي (ص) لم ير زينب من قبل مطلقاً، ولم يكن يعرفها، ولم يكن لدى زينب الرغبة في الإقتران به، ولم يكن زيد مستعدّاً لطلاقها - وبغضّ النظر عن مسألة النبوّة والعصمة - لكان هناك مجال لمثل هذه الأقاويل والتخرّصات، لكن بملاحظة إنتفاء كلّ هذه الظروف يتّضح كون هذه الأكاذيب مختلفة. إضافةً إلى أنّ تاريخ النّبي (ص) لم يعكس أي دليل أو صورة تدلّ على وجود رغبة خاصّة لديه (ص) في الزواج من زينب، بل هي كسائر الزوجات، بل ربّما كانت أقل من بعض الزوجات من بعض الجهات، وهذا شاهد تأريخي آخر على نفي هذه الأساطير. ونرى في نهاية المطاف ضرورة الإشارة إلى إحتمال أن يقول شخص: إنّ محاربة مثل هذه السنّة الخاطئة واجب، ولكن أيّة ضرورة تدعو إلى أن يقتحم النّبي (ص) هذا الميدان بنفسه؟ فقد كان بإمكانه أن يطرح هذه المسألة ويبيّنها كقانون، ويرغب الآخرين في الزواج من مطلّقة المتبنّي. غير أنّ مخالفة سنّة جاهلية خاطئة - خاصّة وأنّها تتعلّق بالزواج من أفراد هم دون شأن المقابل ظاهراً - قد تكون غير مقبولة بالكلام والتقنين أحياناً، إذ يقول الناس: إذا كان هذا الأمر حسناً فلماذا لم يفعله هو؟ لِمَ لم يتزوّج بمطلّقة عبده المعتق وإبنه المتبنى؟ في مثل هذه الموارد ينهي الإقدام والإجراء العملي كلّ هذه الأسئلة والإشكالات، وعندها ستتكسّر وتتلاشى تلك السنّة الخاطئة. إضافةً إلى أنّ هذا العمل كان بنفسه تضحية وإيثاراً. 2- روح الإسلام التسليم أمام الله لا شكّ أنّ إستقلال الإنسان الفكري والروحي لا يسمح له أن يستسلم لأحد بدون قيد أو شرط، لأنّه إنسان مثله، ومن الممكن أن تكون له أخطاء وإشتباهات في المسائل. أمّا إذا إنتهت المسألة إلى الله العالم والحكيم، والنّبي الذي يتحدّث عنه ويسير بأمره، فإنّ عدم التسليم المطلق دليل على الضلال والإنحراف، حيث لا يوجد أدنى إشتباه في أوامره سبحانه. إضافةً إلى أنّ أمره حافظ لمنافع الإنسان نفسه، ولا يعود شيء على ذاته المقدّسة، فهل يوجد إنسان عاقل يسحق مصالحه برجله بعد تشخيص هذه الحقيقة؟ ومضافاً إلى ذلك فإنّنا منه تعالى، وكلّ ما لدينا منه، ولا يمكن أن يكون لنا أمر وقرار إلاّ التسليم لإرادته وأمره، ولذلك ترى بين دفّتي القرآن آيات كثيرة تشير إلى هذه المسألة: فمرّة تقول آية: (إنّما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا واُولئك هم المفلحون).(6) وتقول اُخرى: (فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً).(7) ويقول القرآن في موضع آخر: (ومن أحسن ديناً ممّن أسلم وجهه لله وهو محسن).(8) إنّ "الإسلام" أخذ من مادّة "التسليم"، وهو يشير إلى هذه الحقيقة، وبناءً على هذا فإنّ كلّ إنسان يتمتّع بروح الإسلام بمقدار تسليمه لله سبحانه. ينقسم الناس عدّة أقسام من هذه الناحية: فقسم يسلّمون لأمر الله في الموارد التي تنفعهم فقط، وهؤلاء في الحقيقة مشركون إنتحلوا اسم الإسلام، وعملهم تجزئة لأحكام الله تعالى، فهم مصداق (نؤمن ببعض ونكفر ببعض) فإيمانهم في الحقيقة إيمان بمصالحهم لا بالله تعالى. وآخرون جعلوا إرادتهم تبعاً لإرادة الله، وإذا تعارضت منافعهم الزائلة مع أمر الله سبحانه، فإنّهم يغضّون الطرف عنها ويسلّمون لأمر الله، وهؤلاء هم المؤمنون والمسلمون الحقيقيون. والقسم الثالث أسمى من هؤلاء، فهم لا يريدون إلاّ ما أراد الله، وليس في قلوبهم إلاّ ما يشاؤه سبحانه، فقد بلغوا مرتبة من التسامي لا يحبّون معها إلاّ ما يحبّه الله، ولا يبغضون إلاّ ما أبغضه الله عزّوجلّ. هؤلاء هم الخاصّة والمخلصون والمقرّبون لديه، فقد صبغ التوحيد كلّ وجودهم، وغرقوا في حبّه، وفنوا في جماله(9). ﴿مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ﴾ قسم أو أوجب ﴿لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ﴾ سن نفي الحرج سنة ﴿فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ﴾ من الأنبياء ووسع لهم في النكاح ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾ قضاء مقضيا.