لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
وتجسّد الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث مقام المؤمنين وثوابهم بأروع تجسيد وأقصر عبارة، فتقول: (تحيّتهم يوم يلقونه سلام). "التحيّة" من مادّة "حياة"، وهي تعني الدعاء لسلامة وحياة اُخرى. ولمزيد التوضيح راجع التّفسير الأمثل ذيل الآية ( رقم 85) من سورة النساء. هذا السلام يعني السلامة من العذاب، ومن كلّ أنواع الألم والعذاب والمشقّة، سلام ممتزج بالهدوء والإطمئنان. ومع أنّ بعض المفسّرين يعتقد أنّ "تحيتهم" إشارة إلى سلام المؤمنين وتحية بعضهم بعضاً، إلاّ أنّ ملاحظة الآيات السابقة التي كان الكلام فيها عن الصلاة ورحمة الله والملائكة في هذه الدنيا، تُظهر أنّ هذه التحية أيضاً من الملائكة في الآخرة، كما نقرأ ذلك في الآية ( رقم 23) من سورة الرعد: (والملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب سلام عليكم بما صبرتم). ممّا قلناه اتّضح بصورة ضمنية أنّ المراد من جملة (يوم يلقونه) هو يوم القيامة الذي سمّي بيوم "لقاء الله"، وهذا التعبير يستعمل عادةً في القرآن بهذا المعنى. بعد هذه التحيّة، التي ترتبط ببداية الأمر، أشارت الآية إلى نهايته فقالت: (وأعدّ لهم أجراً كريماً). إنّها جملة جمع فيها كلّ شيء على إختصارها، واُخفيت فيها كلّ النعم والمواهب. بحوث 1- ذكر الله على كلّ حال: عندما يذكر اسم الله تعالى يتجلّى في قلب الإنسان عالم من العظمة والقدرة والعلم والحكمة، لأنّ له الأسماء الحسنى والصفات العليا، وربّ كلّ الكمالات، ومنزّه عن كلّ عيب ونقص. إنّ التوجّه المستمر لمثل هذه الحقيقة التي لها تلك الصفات، يسوق روح الإنسان إلى الخيرات والأعمال الصالحة والطهارات، ويبعده عن السيّئات والقبائح، وبعبارة اُخرى فإنّ نور صفاته عزّوجلّ يتجلّى في روح الإنسان. إنّ التوجّه إلى هكذا معبود عظيم يبعث على الإحساس الدائم بحضوره بين يديه تعالى، وهذا الإحساس يؤدّي إلى زيادة الفاصلة كثيرا بين الإنسان وبين الذنب والمعصية. ذكر الله يعني تذكر مراقبته... ذكر حسابه وجزائه... ذكر محكمته العادلة... نعيمه وجحيمه... وهذا هو الذكر الذي يصفّي الروح، ويغمر القلب نوراً وحيوية. لهذا ورد في الروايات الإسلامية أنّ لكلّ شيء حدّاً، إلاّ ذكر الله فإنّه لا حدّ له! يقول الإمام الصادق (ع) في الرواية التي وردت في اُصول الكافي: "ما من شيء إلاّ وله حدّ ينتهي إليه، إلاّ الذكر فليس له حدّ ينتهي إليه". ثمّ يضيف: "فرض الله عزّوجلّ الفرائض، فمن أدّاهنّ فهو حدّهنّ، وشهر رمضان فمن صامه فهو، والحجّ فمن حجّ حدّه، إلاّ الذكر، فإنّ الله عزّوجلّ لم يرض منه بالقليل، ولم يجعل له حدّاً ينتهي إليه، ثمّ تلا: (ياأيّها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبّحوه بكرةً وأصيلا)"(3). ويقول الإمام الصادق (ع) في ذيل هذه الرواية; "وكان أبي كثير الذكر، لقد كنت أمشي معه وإنّه ليذكر الله، وآكل معه الطعام وإنّه ليذكر الله، ولقد كان يحدث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر الله". وأخيراً ينتهي هذا الحديث الغني المحتوى بهذه الجملة: "والبيت الذي يقرأ فيه القرآن، ويذكر الله عزّوجلّ فيه تكثر بركته، وتحضره الملائكة، وتهجره الشياطين، ويضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب الدرّي لأهل الأرض"(4). إنّ هذا الموضوع من الأهميّة بمكان بحيث عُدّ "ذكر الله" في حديث يعدل خير الدنيا والآخرة، فقد روي عن رسول الله (ص) أنّه قال: "من اُعطي لساناً ذاكراً فقد اُعطي خير الدنيا والآخرة"(5). والروايات الواردة في أهميّة "ذكر الله" تبلغ من الكثرة حدّاً بحيث أنّا لو أردنا إيرادها جميعاً هنا لخرجنا عن وضع الكتاب وحدّه، ولذلك نختم هذا الحديث بحديث آخر قصير عميق المعنى عن الإمام الصادق (ع) حيث يقول: "من أكثر ذكر الله عزّوجلّ أظلّه الله في جنّته"(6). ولمزيد الإطلاع في هذا المجال يُراجع المجلّد الثّاني من اُصول الكافي - الأبواب التي تتعلّق بذكر الله، وخاصّة الأبواب التي تقول: إنّ الآفات والبلايا والمصائب لا تحيط بمن يذكرون الله). وهناك مطلب ينبغي التأكيد عليه، وهو أنّ كلّ هذه البركات والخيرات لا ترتبط قطعاً بالذكر اللفظي وحركة اللسان الخالية من الفكر والعمل، بل الهدف هو الذكر الذي يكون مصدراً ومنبعاً للفكر... ذلك الفكر الذي يتجلّى نوره في أعمال الإنسان، كما صرّحت الروايات بهذا المعنى(7). 2- توضيح حول "لقاء الله": قلنا: إنّ هذا التعبير في القرآن المجيد يشير إلى القيامة عادةً، ولمّا كان اللقاء الحسّي لا يصدق في شأن الله، إذ ليس هو بجسم، وليس له العوارض الجسمية، ولذلك اضطر بعض المفسّرين إلى تقدير شيء هنا، فقالوا: إن المراد هو "لقاء ثواب الله"، أو "لقاء ملائكة الله". غير أنّ "اللقاء" يمكن أن يؤخذ هنا بمعنى اللقاء الحقيقي بعين القلب، حيث أنّ الحجب تُزال في القيامة وتتجلّى عظمة الله وآياته أكثر من أيّ وقت مضى، ويصل الإنسان إلى مقام المشاهدة الباطنية والرؤية القلبية، وينال كلّ شخص من هذه المشاهدة مرتبة تتناسب مع مقدار معرفته وعمله الصالح. وللفخر الرازي في تفسيره هنا بيان جميل يمكن جمعه مع ما قلناه، فهو يقول: إنّ الإنسان يغفل في هذه الدنيا عن الله غالباً نتيجة لغرقه في الاُمور المادية، والسعي لتحصيل المعاش، إلاّ أنّه يتوجّه يوم القيامة بكلّ وجوده إلى ربّ العالمين، لأنّ كلّ هذه المشاغل الفكرية ستزول، وهذا هو معنى لقاء الله(8). ثمّ إنّه اتّضح ممّا قلناه أنّ قول بعض المفسّرين بأنّ هذا التعبير إشارة إلى لحظة الموت واللقاء بملك الموت لا يناسب الآيات مورد البحث، ولا التعبيرات المشابهة الواردة في آيات القرآن الاُخرى، وخاصّة وأنّ ضمير المفعول الذي في جملة "يلقونه" جاء بصيغة المفرد، وهو إشارة إلى ذات الله المقدّسة في حين أنّ الملائكة التي تقبض الأرواح جمع، وجاءت كلمة "الملائكة" بصيغة الجمع في الآية السابقة أيضاً (إلاّ اللهمّ أن تقدّر كلمة ما). 3- اُجور المؤمنين معدّة منذ الآن! إنّ جملة (أعدّ لهم أجراً كريماً) توحي بأنّ الجنّة ونعمها قد خلقت، وهي بإنتظار المؤمنين. ويمكن أن يتبادر هذا السؤال إلى الأذهان: إنّ التهيئة والإعداد يليقان بالشخص المحدود القدرة، حيث أنّه ربّما لا يستطيع في بعض الأحيان أن يهيء وقت الحاجة ما يريد، إلاّ أنّ مثل هذه الحاجة إلى الإستعداد لا تصدق في شأن الله سبحانه، إذ أنّ قدرته لا تحدّ، وإذا أراد شيئاً في أيّة لحظة فإنّه يقول له: كن فيكون، فما هو المراد من التأكيد على التهيئة والإعداد في هذه الآية وسائر آيات القرآن الاُخرى؟! وبملاحظة نقطة واحدة يحلّ هذا الإشكال، وهي أنّ تهيئة الشيء ليس نابعاً من كون القدرة محدودة دائماً، بل قد يكون أحياناً من أجل تهدئة الخاطر وإطمئنان النفس أكثر، وقد يكون أحياناً من أجل زيادة الإحترام والإكرام، ولذلك فإنّنا إذا دعونا ضيفاً، وبدأنا بتهيئة وسائل إستقباله وضيافته، فسنكون قد إهتممنا به وإحترمناه أكثر، على عكس ما إذا قمنا بهذا الإستعداد لإستقباله يوم مجيئه، وفي ساعة وصوله، فإنّ هذا كاف لوحده في الدلالة على عدم إهتمامنا وقلّة إحترامنا لهذا الضيف. وفي الوقت نفسه، لا يمنع هذا الكلام من تعاظم الأجر والثواب وزيادته وفق العمل، وأنّ المؤمنين كلّما إجتهدوا أكثر في تهذيب أنفسهم وتطهيرها، فإنّ الاُجور الإلهيّة المعدّة لهم تتكامل أكثر وتعظّم، وتسير نحو الكمال بنفس النسبة التي يتكاملون فيها. ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ﴾ عند الموت أو البعث أو في الجنة ﴿سَلَامٌ﴾ بشارة بالسلامة من كل شر ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾ هو الجنة.