لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
ثمّ تناولت الواجب الثّاني والثالث، فقالت: (ولا تطع الكافرين والمنافقين). لا شكّ أنّ رسول الله (ص) لم يطع الكافرين والمنافقين مطلقاً، إلاّ أنّ هذا الموضوع من الأهميّة بمكان، ولذلك أكّدت الآية على هذا الموضوع بالخصوص من باب التأكيد على النّبي (ص) والتحذير والقدوة للآخرين، فهي تحذّرهم من الأخطار والعقبات المهمّة التي تعترض طريق القادة المخلصين، والتي تجرّهم إلى المساومة والتسليم أثناء المسيرة، وتتهيّأ أرضية هذا التسليم عن طريق التهديد تارةً، وعن طريق منح الإمتيازات تارةً اُخرى، حتّى أنّ الإنسان قد يشتبه أحياناً فيظنّ أنّ الخضوع والإمتثال لمثل هذه المساومة والإستسلام هو طريق الوصول إلى الهدف. في حين أنّ نتيجة هذا الإستسلام هي إجهاض كلّ الجهود والمساعي، وإحباط كلّ جهاد وكفاح. إنّ تأريخ الإسلام يبيّن أنّ الكافرين والمنافقين سعوا مراراً إلى جرّ النّبي (ص)إلى هذا الموضع، فاقترحوا مرّة أن لا يذكر الأصنام بسوء ولا ينتقدها وينتقصها، وقالوا مرّة اُخرى: ائذن لنا أن نعبد ربّك سنة، واعبد آلهتنا سنة، وكانوا يقولون أحياناً: امهلنا سنة نقيم فيها على ديننا ثمّ نؤمن بك. واقترحوا عليه مرّة أن أبعد عنك فقراء المؤمنين ومساكينهم لنضمّ صوتنا - نحن الأثرياء ذوي المكانة - إليك. وكانوا يعلنون أحياناً إستعدادهم لبذل الإمتيازات المالية والمركز والمنصب الحسّاس، والنساء الجميلات وأمثال ذلك. من المسلّم أنّ كلّ هذه كانت شراك خطيرة في طريق إنتشار الإسلام السريع، وإقتلاع جذور الكفر والنفاق، ولو كان النّبي (ص) قد أظهر الليونة والميل إلى المساومة أمام واحد من هذه الإقتراحات فإنّ دعائم الثورة الإسلامية كانت ستنهار، ولم تكن الجهود لتصل إلى نتيجة مطلقاً. ثمّ تقول في الأمر الرابع والخامس: (ودع أذاهم وتوكّل على الله وكفى بالله وكيلا). إنّ هذا الجزء من الآية يوحي بأنّهم قد وضعوا النّبي (ص) تحت ضغط شديد لحمله على الإستسلام، واستخدموا ضدّه وضدّ أصحابه كلّ أنواع الأذى، سواء كان عن طريق جرح اللسان والكلام الفاحش والإهانة، أم عن طريق الأذى الجسمي، أو عن طريق الحصار الإقتصادي. وكان لهذا الأذى صورة واُسلوباً في مكّة، واُسلوباً آخر في المدينة، لأنّ "الأذى" جاء مطلقاً في الآية ويشمل كلّ أنواع الأذى. ويرى "الراغب" في المفردات أنّ "الأذى" هو كلّ ضرر يصيب الكائن الحي، سواء في روحه، أو جسمه، أو يصيب من يرتبط به، سواء في الدنيا أم الآخرة. وقد إستعملت هذه الكلمة في الآيات القرآنية في "الأذى اللساني" تارةً كالآية ( رقم 61) من سورة التوبة، حيث تقول: (ومنهم الذين يؤذون النّبي ويقولون هو اُذن). وإستعملت أيضاً بمعنى "الأذى البدني" في آيات اُخرى، كالآية ( رقم 16) من سورة النساء: (والّذان يأتيانها منكم فآذوهما) أي يرتكبان الفاحشة، فأقيموا عليهما الحدّ الشرعي. يقول التاريخ: إنّ النّبي (ص) والمؤمنين الأوائل قد وقفوا كالجبل الأشمّ أمام أنواع الأذى، ولم يقبلوا عار الإستسلام والهزيمة قطّ، وأخيراً إنتصروا في حركتهم. وكان أساس هذه المقاومة ومعينها هو "التوكيل على الله" والإعتماد على ذاته المقدّسة... الله الذي تتيسّر كلّ الصعاب والمشاكل أمام إرادته... أجل يكفي الإنسان أن يكون معينه وناصره هذا الربّ الجليل. وممّا قلناه اتّضح أنّ محتوى الآية المذكورة لم يكن نسخ لحكم الجهاد - كما يظنّ ذلك بعض المفسّرين - بل الظاهر أنّ هذه الآيات قد نزلت بعد مدّة من نزول حكم الجهاد، وهي في مصافّ الحوادث المتعلّقة بسورة الأحزاب. إنّ هذا حكم لكلّ العصور والقرون، بأن لا يصرف الأئمّة الإلهيون طاقاتهم الحيوية في الإهتمام بإيذاء مخالفيهم، فإنّهم إن فعلوا ذلك وصرفوا قواهم وطاقاتهم في هذا المجال، يكون عدوّهم قد حقّق هدفه، لأنّه يريد أن يشغل فكر من يقابله، ويهدر طاقاته عن هذا الطريق... هنا يكون أمر (دع أذاهم) هو الحلّ الوحيد. وهنا أمر يستحقّ الإنتباه أيضاً، وهو: أنّ الأوامر الخمسة المذكورة، التي وردت في الآيتين الأخيرتين، يكمل بعضها بعضاً، ويرتبط بعضها ببعض، فإنّ تبشير المؤمنين لجذب القوى المؤمنة، وعدم الإستسلام للكفّار والمنافقين، وعدم الإهتمام بأذاهم، والتوكّل على الله تشكّل مجموعة مباديء تؤدّي إلى الهدف، ودستور عمل جامع لكلّ سالكي طريق الحقّ. ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ تهييج له (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾ إيذاءهم إياك وأعرض عنه أو إيذاءك إياهم بقتل أو ضرر حتى تؤمر به ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ فهو كافيك ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ مفوضا إليه الأمور.