سبب النّزول
جاء في تفسير "علي بن إبراهيم" في سبب نزول الآية الاُولى: فإنّه كان سبب نزولها أنّ النساء كن يخرجن إلى المسجد ويصلّين خلف رسول الله (ص) وإذا كان بالليل خرجن إلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة والغداة، يقعد الشبّان لهنّ في طريقهنّ فيؤذونهن ويتعرّضون لهنّ فأنزل الله: (ياأيّها النّبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين - إلى قوله - ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً)(1).
وجاء في نفس الكتاب في شأن نزول الآية الثانية، أنّها نزلت في قوم منافقين كانوا في المدينة يرجفون برسول الله (ص) إذا خرج في بعض غزواته يقولون قتل وأسر فيغتمّ المسلمون لذلك ويشكون إلى رسول الله (ص) فأنزل الله في ذلك: (لئن لم ينته المنافقون - إلى قوله - ثمّ لا يجاورونك إلاّ قليلا)(2) فبذلك هدّدت مختلقي الشايعات بشدّة.
التّفسير
تحذير شديد للمؤذين ومختلقي الإشاعات!
بعد النهي عن إيذاء رسول الله (ص) والمؤمنين الذي ورد في الآية السابقة، أكّدت الآية هنا على أحد موارد الأذى، ومن أجل الوقوف أمامه سلكت طريقين: فأمرت المؤمنات أوّلا أن لا يدعن في يد المفسدين والعابثين حجّة يتشبّثون بها في سبيل تحقيق أذاهم، ثمّ هاجمت المنافقين ومختلقي الإشاعات وهدّدتهم بتهديد قلّ نظيره في آيات القرآن.
فتقول الآية في الجزء الأوّل: (ياأيّها النّبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين).
هناك رأيان لدى المفسّرين في المراد من "المعرفة" لا يتناقضان:
الأوّل: أنّه كان من المتعارف ذلك اليوم أن تخرج الجواري من المنازل مكشوفات الرأس والرقبة، ولمّا لم يكن مقبولات من الناحية الأخلاقية، فقد كان بعض الشباب المتهوّر يضايقوهنّ، فأمرت المسلمات الحرائر أن يلتزمن الحجاب التامّ ليتميّزن عن الجواري، وبالتالي لا يقدر أن يؤذيهنّ اُولئك الشباب.
ومن البديهي أنّ هذا الكلام لا يعني أنّه كان لاُولئك الطائشين حقّ أذى الجواري، بل المراد سلب الحجّة من الأفراد الفاسدين.
والآخر: أنّ الهدف هو أن لا تتساهل المسلمات في أمر الحجاب كبعض النساء المتحلّلات والمتبرجات المسلوبات الحياء رغم التظاهر بالحجاب، هذا التبرّج يغري السفلة والأراذل ويلفت إنتباههم.
أمّا المراد من "الجلباب" فقد ذكر المفسّرون وأرباب اللغة عدّة معان له:
1- أنّه "الملحفة"، وهي قماش أطول من الخمار يغطّي الرأس والرقبة والصدر.
2- أنّه المقنعة والخمار.
3- أنّه القميص الفضفاض الواسع(3).
ومع أنّ هذه المعاني تختلف عن بعضها، إلاّ أنّ العامل المشترك فيها أنّها تستر البدن.
وتجدر الإشارة إلى أنّ "الجلباب" يقرأ بكسر الجيم وفتحها.
إلاّ أنّ الأظهر أنّ المراد هو الحجاب الذي يكون أكبر من الخمار وأقصر من العباءة، كما ذكر ذلك صاحب لسان العرب.
والمراد من (يُدنين) أن يقربن الجلباب إلى أبدانهن ليكون أستر لهنّ، لا أن يدعنه كيف ما كان بحيث يقع من هنا وهناك فينكشف البدن، وبتعبير أبسط أن يلاحظن ثيابهنّ ويحافظن على حجابهنّ.
أمّا ما إستفاده البعض من أنّ الآية تدلّ على وجوب ستر الوجه أيضاً، فلا دليل عليه، والنادر من المفسّرين من إعتبر ستر الوجه داخلا في الآية(4).
وعلى كلّ حال، فيستفاد من هذه الآية أنّ حكم الحجاب بالنسبة للحرائر كان قد نزل من قبل، إلاّ أنّ بعض النسوة كنّ يتساهلن في تطبيقه، فنزلت الآية المذكورة للتأكيد على الدقّة في التطبيق.
ولمّا كان نزول هذا الحكم قد أقلق بعض المؤمنات ممّا كان منهن قبل ذلك، فقد أضافت الآية في نهايتها (وكان الله غفوراً رحيماً) فكلّ ما بدر منكنّ إلى الآن كان نتيجة الجهل فإنّ الله سيغفره لكنّ، فتبن إلى الله وارجعن إليه، ونفذن واجب العفّة والحجاب جيداً.
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ﴾ يرخين على وجوههن وأبدانهن بعض ملاحفهن الفاضل من التلفع ﴿ذَلِكَ أَدْنَى﴾ أقرب إلى ﴿أَن يُعْرَفْنَ﴾ أنهن حرائر ﴿فَلَا يُؤْذَيْنَ﴾ بتعرض أهل الريبة لهن كتعرضهم للإماء ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ بإرشاده إلى ما فيه المصالح