لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير حمل الأمانة الإلهية أعظم إفتخارات البشر: تكمل هاتان الآيتان - اللتان هما آخر آيات سورة الأحزاب - المسائل المهمّة التي وردت في هذه السورة في مجالات الإيمان، والعمل الصالح، والجهاد، والإيثار، والعفّة والأدب والأخلاق، وتبيّن كيف أنّ الإنسان يحتل موقعاً سامياً جدّاً بحيث يستطيع أن يكون حامل رسالة الله العظيمة، وكيف أنّه إذا ما جهل قيمه الحياتية والوجودية سيظلم نفسه غاية الظلم، وينحدر إلى أسفل سافلين! تبيّن الآية أوّلا أعظم إمتيازات الإنسان وأهمّها في كلّ عالم الخلقة، فتقول: (إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها). ممّا لا شكّ فيه أنّ إباءها تحمل المسؤولية وإمتناعها عن ذلك لم يكن إستكباراً منها، كما كان ذلك من الشيطان، حيث تقول الآية ( رقم 24) من سورة البقرة: (أبى واستكبر)، بل إنّ إباءها كان مقترناً بالإشفاق، أي الخوف الممتزج بالتوجّه والخضوع. إلاّ أنّ الإنسان، اُعجوبة عالم الخلقة، قد تقدّم (وحملها الإنسان إنّه كان ظلوماً جهولا). لقد تحدّث كبار مفسّري الإسلام حول هذه الآية كثيراً، وسعوا كثيراً من أجل الوصول إلى حقيقة معنى "الأمانة"، وأبدوا وجهات نظر مختلفة، نختار أفضلها بتقصّي القرائن الموجودة في طيّات الآية. ويجب التأكيد في هذه الآية العميقة المحتوى على خمس موارد: 1- ما هو المراد من الأمانة؟ 2- ما معنى عرضها على السماوات والأرض والجبال؟ 3- لماذا وكيف أبت هذه الموجودات حمل هذه الأمانة؟ 4- كيف حمل الإنسان ثقل الأمانة هذا؟ 5- لماذا وكيف كان ظلوماً جهولا؟ لقد ذُكرت تفاسير مختلفة للأمانة ومن جملتها: أنّ المراد من الأمانة: هي الولاية الإلهية، وكمال صفة العبودية، والذي يحصل عن طريق المعرفة والعمل الصالح. أنّ المراد: صفة الإختيار والحرية والإرادة التي تميّز الإنسان عن سائر الموجودات. أنّ المراد: العقل الذي هو ملاك التكليف، ومناط الثواب والعقاب. أنّ المراد: أعضاء جسم الإنسان، فالعين أمانة الله، ويجب الحفاظ عليها وعدم إستعمالها في طريق المعصية، والاُذن واليد والرجل واللسان كلّها أمانات يجب حفظها. أنّ المراد: الأمانات التي يأخذها الناس بعضهم من بعض، والوفاء بالعهود. أنّ المراد: معرفة الله سبحانه. أنّ المراد: الواجبات والتكاليف الإلهيّة كالصلاة والصوم والحجّ. لكن يتّضح من خلال أدنى دقّة أن هذه التفاسير لا تتناقض مع بعضها، بل يمكن إدغام بعضها في البعض الآخر، فبعضها أخذت جانباً من الموضوع، وبعضها الآخر كلّه. ومن أجل الحصول على جواب جامع كاف، يجب أن نلقي نظرة على الإنسان لنرى أي شيء يمتلكه وتفتقده السماوات والأرضون والجبال؟ إنّ الإنسان موجود له إستعدادات وقابليات يستطيع من خلال إستغلالها أن يكون أتمّ مصداق لخليفة الله، ويستطيع أن يصل إلى قمّة العظمة والشرف بإكتساب المعرفة وتهذيب النفس وتحصيل الكمالات، وأن يسمو حتّى على الملائكة. إنّ هذا الإستعداد المقترن بالحرية والإرادة والإختيار يعني أنّ الإنسان يطوي هذا الطريق بإرادته وإختياره، ويبدأ فيه من الصفر ويسير إلى ما لا نهاية. إنّ السماء والأرض والجبال تمتلك نوعاً من المعرفة الإلهية، وهي تذكر الله سبحانه وتسبّحه، وتخضع لعظمته وتخشع لها وتسجد، إلاّ أنّ كلّ ذلك ذاتي وتكويني وإجباري، ولذلك ليس فيه تكامل ورقي، والموجود الوحيد الذي لا ينتهي منحنى صعوده ونزوله، وهو قادر على إرتقاء قمّة التكامل بصورة لا تعرف الحدود، ويقوم بكلّ هذه الأعمال بإرادته وإختياره، هو الإنسان، وهذه هي "الأمانة الإلهيّة" التي إمتنعت من حملها كلّ الموجودات، وحملها الإنسان! ولذلك نرى الآية التالية قسّمت البشر إلى ثلاث فئات: "المؤمنين" و "الكفّار" و "المنافقين". بناءً على هذا يجب القول في عبارة مختصرة أنّ الأمانة الإلهية هي قابلية التكامل غير المحدودة والممتزجة بالإرادة والإختيار، والوصول إلى مقام الإنسان الكامل، وعبودية الله الخاصّة وتقبّل ولاية الله. لكن لماذا عُبّر عن هذا الأمر بالأمانة، مع أنّ كلّ وجودنا وكلّ ما لدينا أمانة الله؟ لقد عبّر بهذا التعبير لأهميّة إمتياز البشر العظيم هذا، وإلاّ فإنّ بقية المواهب أمانات الله أيضاً، غير أنّ أهميّتها تقلّ أمام هذا الإمتياز. ويمكن أن نعبّر هنا عن هذه الأمانة بتعبير آخر ونقول: إنّها التعهّد والإلتزام وقبول المسؤولية. بناءً على هذا فإنّ اُولئك الذين فسّروا الأمانة بصفة الإختيار والحرية في الإرادة، قد أشاروا إلى جانب من هذه الأمانة العظمى، كما أنّ اُولئك الذين فسّروها بالعقل، أو أعضاء البدن، أو أمانات الناس لدى بعضهم البعض، أو الفرائض والواجبات، أو التكاليف بصورة عامّة، قد أشار كلّ منهم إلى غصن من أغصان هذه الشجرة العظيمة المثمرة، وإقتطف منها ثمرة. لكن ما هو المراد من عرض هذه الأمانة على السموات والأرض؟ هل المراد: أنّ الله سبحانه قد منح هذه الموجودات شيئاً من العقل والشعور ثمّ عرض عليها حمل هذه الأمانة؟ أو أنّ المراد من العرض هو المقارنة؟ أي أنّها عندما قارنت حجم هذه الأمانة مع ما لديها من القابليات والإستعدادات أعلنت عدم لياقتها وإستعدادها عن تحمّل هذه الأمانة العظيمة. طبعاً، يبدو أنّ المعنى الثّاني هو الأنسب، وبهذا فإنّ السماوات والأرض والجبال قد صرخت جميعاً بأنّا لا طاقة لنا بحمل هذه الأمانة. ومن هنا يتّضح جواب السؤال الثالث أيضاً، بأنّ هذه الموجودات لماذا وكيف رفضت وأبت حمل هذه الأمانة العظمى، وأظهرت إشفاقها من ذلك؟ ومن هنا تتّضح كيفية حمل الإنسان لهذه الأمانة الإلهية، لأنّ الإنسان كان قد خلق بشكل يستطيع معه تحمّل المسؤولية والقيام بها، وأن يتقبّل ولاية الله، ويسير في طريق العبودية والكمال ويتّجه نحو المعبود الدائم، وأن يطوي هذا الطريق بقدمه وإرادته، وبالإستعانة بربّه. أمّا ما ورد في روايات عديدة وردت عن أهل البيت (ع) من تفسير هذه الأمانة بقبول ولاية أمير المؤمنين علي (ع) وولده، فمن أجل أنّ ولاية الأنبياء والأئمّة نور ساطع من تلك الولاية الإلهية الكليّة، والوصول إلى مقام العبودية، وطي طريق التكامل لا يمكن أن يتمّ من دون قبول ولاية أولياء الله. جاء في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) أنّه سئل عن تفسير آية عرض الأمانة، فقال: "الأمانة الولاية، من إدّعاها بغير حقّ كفر"(1). وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال عندما سئل عن تفسير هذه الآية: "الأمانة الولاية، والإنسان هو أبو الشرور المنافق"(2). والمسألة الاُخرى التي يلزم ذكرها هنا، هي أنّنا قلنا في ذيل الآية (172) من سورة الأعراف فيما يتعلّق بعالم الذرّ بأن أخذ ميثاق الله على التوحيد كان عن طريق الفطرة، وإستعداد وطبيعة الآدمي، وإنّ عالم الذرّ هو عالم الإستعداد والفطرة. وفي مورد قبول الأمانة الإلهيّة يجب القول بأنّ هذا القبول لم يكن قبول اتّفاق وعقد، بل كان قبولا تكوينياً حسب عالم الإستعداد. السؤال الوحيد الذي يبقى هو مسألة كون الإنسان "ظلوماً جهولا"، فهل أنّ وصف الإنسان بهاتين الصفتين - وظاهرهما ذمّه وتوبيخه - كان نتيجة قبوله لهذه الأمانة؟ من المسلّم أنّ النفي هو جواب هذا السؤال، لأنّ قبول هذه الأمانة أعظم فخر وميزة للإنسان، فكيف يمكن أن يُذمّ على قبوله مثل هذا المقام السامي؟ أم أنّ هذا الوصف بسبب نسيان غالب البشر وظلمهم أنفسهم، وعدم العلم بقدر الإنسان ومنزلته... وبسبب الفعل الذي بدأ منذ إبتداء نسل آدم من قِبل قابيل وأتباعه، ولا يزال إلى اليوم. إنّ الإنسان الذي ينادى من العرش، وبني آدم الذين وُضع على رؤوسهم تاج (كرّمنا بني آدم) والبشر الذين هم وكلاء الله في الأرض بمقتضى قوله سبحانه: (إنّي جاعل في الأرض خليفة) والإنسان الذي كان معلّماً للملائكة وسجدت له، كم يجب أن يكون ظلوماً جهولا لينسى كلّ هذه القيم السامية الرفيعة، ويجعل نفسه أسيرة هذه الدنيا، وتابعاً لهذا التراب، ويكون في مصاف الشياطين، فينحدر إلى أسفل سافلين؟! أجل... إنّ قبول هذا الخطّ المنحرف - والذي كان ولا يزال له أتباع وسالكون كثيرون جدّاً - خير دليل على كون الإنسان ظلوماً جهولا، ولذلك نرى أنّه حتّى آدم نفسه، والذي كان رأس السلسلة ومتمتّعاً بالعصمة، يعترف بأنّه قد ظلم نفسه (ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين).(3) لقد كان "ترك الأولى" الذي صدر منه ناشئاً في الحقيقة عن نسيان جزء من عظمة هذه الأمانة الكبرى! وعلى أي حال، فيجب الإعتراف بأنّ الإنسان الضعيف والصغير في الظاهر، هو اُعجوبة علم الخلقة، حيث إستطاع أن يتحمّل أعباء الأمانة التي عجزت السماوات والأرضون عن حملها إذا لم ينس مقامه ومنزلته(4). ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ﴾ هي الطاعة المعلق بها الفوز فإنها واجبة الأداء كالأمانة ﴿عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا﴾ أي هي لعظمتها بحيث لو عرضت على هذه العظام وكان لها شعور لأبين حملها ﴿وَأَشْفَقْنَ﴾ خفن ﴿مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ﴾ مع ضعفه أي جنسه باعتبار الغالب ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا﴾ حيث لم يؤدها ﴿جَهُولًا﴾ بعظمة شأنها أو أريد بالأمانة ما يعم الطاعة الطبيعية والاختيارية.