التّفسير
هو المالك لكلّ شيء والعالم بكلّ شيء:
خمس سور من القرآن الكريم إفتتحت "بحمد الله"، وإرتبط (الحمد) في ثلاثة منها بخلق السموات والأرض وهي (سبأ وفاطر والأنعام) بينما كان مقترناً في سورة الكهف بنزول القرآن على قلب الرّسول الأكرم (ص)، وجاء في سورة الفاتحة تعبيراً جامعاً شاملا لكلّ هذه الإعتبارات (الحمد لله ربّ العالمين).
على كلّ حال، الحمد والشكر لله تعالى في مطلع سورة سبأ هو في قبال مالكيته وحاكميته تعالى في الدنيا والآخرة.
يقول تعالى: (الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة).
لذا فإنّ الحاكمية والمالكية في الدنيا والآخرة له سبحانه، وكلّ موهبة، وكلّ نعمة، ومنفعة وبركة، وكلّ خلقة سوية عجيبة مذهلة، تتعلّق به تعالى، ولذا فإنّ "الحمد" الذي حقيقته "الثناء على فعل إختياري حسن" كلّه يعود إليه تعالى، وإذا كانت بعض المخلوقات تستحقّ الحمد والثناء، فلأنّها شعاع من وجوده عزّوجلّ ولأنّ أفعالها وصفاتها قبس من أفعاله وصفاته تعالى.
وعليه فكلّ مدح وثناء يصدر من أحد على شيء في هذا العالم، فإنّ مرجعه في النهاية إلى الله سبحانه وتعالى.
ثمّ يضيف تعالى قائلا: (وهو الحكيم الخبير).
فقد إقتضت حكمته البالغة أن يُخضع الكون لهذا النظام العجيب، وأن يستقرّ - بعلمه وإحاطته - كلّ شيء في محلّه من الكون، فيجد كلّ مخلوق - كلّ ما يحتاج إليه - في متناوله.
وقد تحدّث المفسّرون كثيراً في هذه الآية عن المقصود من الحمد والشكر في الآخرة... فذهب بعضهم: إنّ الآخرة وإن لم تكن دار تكليف، إلاّ أنّ عبّاد الرحمن الذين تسامت أرواحهم بعشق بارئهم هناك، يشكرونه ويحمدونه وينتشون بلذّة خاصّة من ذلك.
وقال آخرون: إنّ أهل الجنّة يحمدونه على فضله، وأهل النار يحمدونه على عدله.
وقيل: إنّ الإنسان - نتيجة وجود الحجب المختلفة على قلبه وعقله في الدنيا - لا يمكنه أن يحمد الله حمداً خالصاً، وعندما ترتفع هذه الحجب يوم القيامة تتّضح مالكيته تعالى وهيمنته على عالم الوجود للجميع مصداقاً لقوله تعالى (الملك يومئذ لله) وحينها تلهج الألسن بحمده والثناء عليه بكامل خلوص النيّة.
وكذلك فإنّ الإنسان قد يغفل في هذه الدنيا فيحمد بعض المخلوقات، متوهماً إستقلالها، إلاّ أنّه في الآخرة، وحيث يتّضح إرتباط الكلّ به تعالى كإرتباط أشعّة الشمس بقرصها، فإنّ الإنسان لن يؤدّي الحمد والثناء إلاّ لله سبحانه.
فضلا عن كلّ هذا، فقد ورد مراراً في القرآن الكريم - أيضاً - أنّ أصحاب الجنّة يحمدون الله حين دخولهم جنّات الخلد: (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن).(2)
(وآخر دعواهم أن الحمد لله ربّ العالمين).(3)
على كلّ حال فإنّ هذا الحمد والثناء لا ينطلق من ألسنة الناس والملائكة فقط، بل تُسمع همهمة الحمد والتسبيح من كلّ ذرّة في عالم الوجود بإدراك العقل، فليس من موجود إلاّ ويحمده ويسبّحه تعالى.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ﴾ لا لغيره ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ من نعمة وغيرها فهو المنعم المختص بكل كماله ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ﴾ في الدنيا وله الحمد ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ خصت تفضيلا لها على الزائلة ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ﴾ في تدبيره ﴿الْخَبِيرُ﴾ بخلقه