التّفسير
(فجعلناهم أحاديث ومزّقناهم كلّ ممزّق!!)
تعود هذه الآيات إلى قصّة قوم سبأ مرّة اُخرى، وتعطي شرحاً وتفصيلا أكثر حولهم وحول العقاب الذي حلّ بهم.
ليكون درساً بليغاً وتربوياً لكلّ سامع.
يقول تعالى: لقد عمّرنا أرضهم إلى حدّ أنّ النعمة لم تغطّها وحدها، بل (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرىً ظاهرة).
فقد جعلنا بينهم وبين الأرض المباركة مدائن وقرىً اُخرى متّصلة بفواصل قليلة إلى درجة أنّ القرية ترى من القرية الثّانية.
بعض المفسّرين قالوا في تفسير "قرى ظاهرة" بأنّها إشارة إلى القرى التي كانت تظهر للعيان من جادّة المسير بشكل واضح، ويستطيع المسافرون التوقّف فيها، أو أنّها القرى التي كانت على مرتفعات من الأرض فكانت واضحة للعابرين.
أمّا ما هي "الأرض المباركة"؟ فقد أجمع أغلب المفسّرين على أنّها "أرض الشام" (سوريا وفلسطين والأردن)، لأنّ هذا التعبير اُطلق على نفس هذه المنطقة في الآية الاُولى من سورة الإسراء، والآية ( رقم 81) من سورة الأنبياء.
ولكن بعض المفسّرين إحتمل أنّ المقصود منها هو "صنعاء" أو "مأرب" وكلتاهما كانتا في اليمن، ولا يستبعد هذا التّفسير، لأنّ المسافة بين (اليمن) الواقعة في أقصى جنوب الجزيرة العربية، و (الشام) الواقعة في أقصى شمالها، شاسعة ومليئة بالصحاري اليابسة المقفرة ممّا يجعل تفسير الأرض المباركة هنا (بالشام) بعيداً جدّاً، ولم ينقل في التواريخ ما يشير إلى ذلك.
بعضهم إحتمل أيضاً أن يكون المقصود (بالأرض المباركة).
(مكّة) وهو بعيد أيضاً.
هذا من جهة العمران، ولكن العمران وحده لا يكفي، بل إنّ شرطه الأساسي هو "الأمان"، ولذلك تضيف الآية (وقدّرنا فيها السير) أي جعلنا بينها فواصل معتدلة.
(سيروا فيها ليالي وأيّاماً آمنين).
وبهذا فإنّ الفواصل والمسافات بين القرى كانت متناسقة محسوبة، وكذلك فإنّها طرق محفوظة من حملات الضواري أو السرّاق أو قطّاع الطرق.
بحيث أنّ الناس كانوا يسافرون خلال هذه الطرق.
بلا زاد أو دواب وبلا إستفادة من الحراس المسلّحين، ولم يكونوا يخافون من حوادث الطريق أو قلّة الماء والزاد لديهم.
أمّا بأيّة وسيلة تمّ إبلاغ هذه الرسالة للناس (سيروا فيها) الآية، يرد أيضاً الإحتمالان بأن يكون ذلك بواسطة أحد الأنبياء (ع)، أو أنّ ظاهر حال المنطقة كان يوصل هذا المعنى إلى وجدانهم.
تقديم "الليالي" على "الأيّام" قد يكون بلحاظ أنّ وجود الأمن في الليل من السرّاق أو الوحوش أهمّ منه في النهار الذي تسهل معه مهمّة الأمن.
ولكن هؤلاء جحدوا نعم الله العظيمة التي شملت كلّ مناحي حياتهم - كما هو الحال بالنسبة لغيرهم من الأقوام المتنّعمة - ولبسهم الغرور، وأحاطت بهم الغفلة ونشوة النعيم وعدم لياقتهم له، فاسلكتهم طريق الكفران وعدم الشكر، وإنحرفوا عن الصراط وتركوا أوامر الله خلف ظهورهم.
﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فيها﴾ بالماء والشجر وهي قرى الشام التي يتجرون إليها ﴿قُرًى ظَاهِرَةً﴾ متواصلة من اليمن إلى الشام ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ﴾ بحيث يقيلون في قرية ويبيتون في أخرى إلى انقطاع سفرهم وقلنا ﴿سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا﴾ متى شئتم من ليل أو نهار ﴿آمِنِينَ﴾ من المخاوف والمضار.