تقول: (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى)(2) لقد عمّ هذا الإشتباه الخطير بعضاً من البسطاء، وتصوّروا بأنّهم ما داموا محرومين في الدنيا فهم مغضوب عليهم ومطرودون من رحمة الله، وهؤلاء المرفّهون هم المحبوبون المقبولون لديه.
ما أكثر المحرومين الذين امتحنوا بالحرمان، فنالوا أرقى الدرجات والمراتب الروحية.
وما أكثر المرفّهين الذين أصبحت أموالهم وثرواتهم وبالا عليهم ومقدّمة لعقابهم.
أليس قد ذكرت الآية ( رقم 15) من سورة التغابن بصراحة (إنّما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم).
ولكن ليس معنى هذا هو حثّ الإنسان على ترك السعي والدأب اللازم لإقامة الأود، بل المقصود هو التأكيد على أنّ إمتلاك الإمكانات الإقتصادية والقوّة البشرية الواسعة لا يمثّل أبداً أيّة قيمة معنوية للإنسان عند الله.
ثمّ تتناول الآية موضوع المعيار الأصلي لتقييم الناس، وما يسبّب قربهم منه (على شكل إستثناء منفصل) فتقول: (إلاّ من آمن وعمل صالحاً فاُولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون)(3).
وعليه فجميع المعايير تعود أصلا إلى هذين الأمرين "الإيمان" و "العمل الصالح".
ويستوعب هذا المعيار جميع الأفراد وفي أي زمان أو مكان، ومن أي طبقة أو مجموعة كان.
وإختلاف مراتب البشر أمام الله إنّما هو بتفاوت درجات إيمانهم ومراتب عملهم الصالح، ولا شيء سوى ذلك.
حتّى طلب العلم أو الإنتساب إلى أفراد عظماء، بل حتّى للأنبياء، إذا لم يكن مقترناً بهذين الأمرين فإنّه وحده لا يضيف إلى قيمة الإنسان شيئاً.
هنا يشطب القرآن وبصراحة قلّ نظيرها على كلّ الظنون المنحرفة والخرافات بخصوص عوامل القرب من الله، وما يرفع من قيمة الإنسان، ويخلص إلى أنّ المعيار الأصيل هو في شيئين فقط، يستطيع كلّ الناس تحصيلها، وأنّ الإمكانات والمحروميات المادية لا أثر لها في ذلك.
أجل، فإنّ الأموال والأولاد أيضاً إذا وُجّهت بهذا المسير، صبغت بتلك الصبغة الإلهيّة وتقبّلت لون الإيمان والعمل الصالح، وأصبحت سبباً في القرب من الله.
أمّا الأموال والأولاد التي تبعد الإنسان عن الله، وتكون له صنماً يُعبد من دون الله وسبباً للفساد والإفساد، فهي جواذب جهنّم، وكما قال القرآن الكريم: (ياأيّها الذين آمنوا إنّ من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم).(4)
كلمة "ضعف" ليست بمعنى "مضاعفة الشيء مرتين" فقط، بل بمعنى "أضعاف مضاعفة لأكثر من مرتين".
وقد وردت في هذه الآية بهذا المعنى.
لأنّنا نعلم أنّ أي عمل حسن يحسب عند الله بعشرة أمثاله على الأقل (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها).
(5) وأحياناً أكثر من ذلك بكثير.
"غرفات" جمع "غرفة" بمعنى الحجرات العلوية من البناء، والتي غالباً ما تكون إضاءتها أكثر وهواؤها أفضل.
وبعيدة عن الآفات، لذا عبّر القرآن عن أفضل منازل الجنّة (بالغرف).
وهذه اللفظة من مادّة "غرف"، على زنة (بحر) بمعنى رفع الشيء وتناوله.
التعبير بـ "آمنون" فيما يخصّ أهل الجنّة، تعبير جامع يعكس حالة الطمأنينة الروحية والجسدية لهم من كافّة النواحي، فلا خوف من هجوم عدوّ، أو مرض، أو آفة أو ألم، ولا خوف حتّى من الخوف!، وليس أغلى من هذه النعمة بأن يكون الإنسان آمناً من كلّ جانب، فلا بلاء أشدّ من الإحساس بعدم الأمن في مختلف جوانب الحياة.
﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى﴾ قربى أي تقربا ﴿إِلَّا﴾ لكن ﴿مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ أو استثناء من مفعول يقربكم أي ما يقرب أحدا إلا المؤمن الصالح المنفق ماله في البر والمعلم ولده للخير أو من فاعله بحذف مضاف ﴿فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ﴾ أي يجازوا الضعف إلى العشر وأكثر من إضافة المصدر إلى مفعوله ﴿بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ﴾ من كل مكروه