ولأنّ فريقاً من الأثرياء الظالمين الطغاة كانوا في صفّ المشركين، وادّعوا بأنّهم يعبدون الملائكة وأنّهم شفعاؤهم يوم القيامة، فقد ردّ القرآن على هذا الإدّعاء الباطل فقال: (ويوم يحشرهم جميعاً ثمّ يقول للملائكة أهؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون).
بديهي أنّ هذا السؤال ليس من باب الإستفهام عن الجواب، لأنّ الله تعالى عالم بكلّ شيء، ولكن الهدف هو أن تظهر الحقائق من إجابة الملائكة، لكي يخسأ هؤلاء الضالّون ويخيب ظنّهم، ويعلموا بأنّ الملائكة متنفّرين من أعمالهم، فيصيبهم اليأس إلى الأبد.
ذكر (الملائكة) من بين المعبودات التي كان المشركون يعبدونها، إمّا لأنّ الملائكة أشرف المخلوقات التي عبدها الضالّون، والتي لم يحصلوا على شفاعتها يوم القيامة، فماذا يستطيعون الحصول عليه من حفنة من الحجر أو الأخشاب أو الجنّ أو الشياطين!؟
أو أنّه من قبيل أنّ عبدة الأوثان كانوا يعتقدون بأنّ الأحجار والأخشاب هي مظهر ونموذج لموجودات علوية (كالملائكة وأرواح الأنبياء)، ولذا عبدوها.
فكما ورد في تاريخ الوثنية عند العرب "إنّ سبب حدوث عبادة الأصنام في العرب، هو أنّ "عمرو بن لحي" مرّ بقوم بالشام فرآهم يعبدون الأصنام فسألهم فقالوا له: هذه أرباب نتّخذها على شكل الهياكل العلوية فنستنصر بها ونستسقي.
فتبعهم وأتى بصنم معه إلى الحجاز وسوّل للعرب فعبدوه وإستمرّت عبادة الأصنام فيهم إلى أن جاء الإسلام"(1) (2).
والآن لننظر ماذا تقول الملائكة للإجابة على سؤال الباري عزّوجلّ؟ لقد إختارت الملائكة في الحقيقة أكثر الأجوبة شمولية وأعظمها أدباً (قالوا سبحانك أنت وليّنا من دونهم بل كانوا يعبدون الجنّ أكثرهم بهم مؤمنون).
أمّا ما هو المقصود من الجواب الذي أجابت به الملائكة؟ فللمفسّرين أقوال، ويبدو أنّ أقربها هو القول بأنّ المقصود (بالجنّ) هو (الشيطان) وسائر الموجودات الخبيثة التي شجّعت عبدة الأوثان على ذلك العمل، وزينته في أنظارهم، وعليه فإنّ المراد من عبادة الجنّ هي تلك الطاعة والإنقياد لأوامرها والرضى بأضاليلها.
فالملائكة إذاً يقولون ضمن إعلان تنفّرهم وعدم رضاهم على هذه الأعمال: إنّ العامل الأساسي لهذا الفساد هم الشياطين، وإن كان الظاهر أنّهم يعبدوننا، فالمهمّ هو الكشف عن الوجه الحقيقي لهذا العمل أمام الملأ.
وقد ورد نظير هذا المعنى في سورة يونس - الآية ( رقم 28) حيث يقول تعالى: (ويوم نحشرهم جميعاً ثمّ نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيّلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيّانا تعبدون).
أي إنّكم في الحقيقة لم تعبدونا نحن، بل تعبدون أهواءكم وأوهامكم وخيالاتكم، ناهيك عن أنّ هذه العبادة لم تكن بأمرنا ورضانا.
وعبادة هذا شكلها ليست بعبادة أصلا.
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾ المشركين ﴿ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾ توبيخا للمشركين.