التّفسير
بأيِّ منطق ينكرون آيات الله:
تعود هذه الآيات لتكمل البحث الذي تناولته الآيات السابقة حول المشركين الكفّار وأقوالهم يوم القيامة، فتتحدّث حول وضع هؤلاء في الدنيا ومواقفهم عند سماعهم القرآن حتّى يتّضح أنّ مصيرهم الاُخروي المشؤوم إنّما هو نتاج تلك المواقف الخاطئة التي اتّخذوها إزاء آيات الله في الدنيا.
تقول الآية الكريمة الاُولى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بيّنات قالوا ما هذا إلاّ رجل يريد أن يصدّكم عمّا كان يعبد آباؤكم).
فهذا أوّل ردّ فعل لهم إزاء "الآيات البيّنات" وهو السعي إلى تحريك حسّ العصبية في هؤلاء القوم المتعصّبين.
خاصّة مع ملاحظة إستخدامهم تعبير "آباؤكم" بدل "آباؤنا"، يفهم منه أنّهم يريدون القول لقومهم بأنّ تراث الأجداد في خطر، وإنّ عليكم النهوض والتصدّي لهذا الرجل عن العبث بذلك الميراث.
ثمّ تعبير (ما هذا إلاّ رجل) إنّما يقصد به تحقير النّبي (ص) من جهتين الاُولى كلمة "هذا" والثّانية "رجل" بهيأة النكرة، مع العلم بأنّهم يعرفون النّبي (ص) جيّداً، ويعلمون بأنّ له ماضياً مشرقاً.
من الجدير بالملاحظة أيضاً أنّ القرآن وصف "الآيات" بـ "البيّنات"، أي أنّها تحمل دلائل حقّانيتها معها، وما هو قابل للمعاينة لا يحتاج إلى توضيح أو بيان.
ثمّ توضّح الآية مقولتهم الثّانية التي قصدوا بها إبطال دعوة النّبي (ص) فتقول: (وقالوا ما هذا إلاّ إفك مفترى).
"إفك" كما ذكرنا سابقاً بمعنى كلّ مصروف عن وجهه الذي يحقّ أن يكون عليه، ومنه قيل للرياح العادلة عن المهابّ "مؤتفكة"، وأي صرف عن الحقّ في الإعتقاد إلى الباطل، ومن الصدق في المقال إلى الكذب، ومن الجميل في الفعل إلى القبيح.
ولكن كما قال البعض، فإنّ "الإفك" يطلق على الأكاذيب الكبيرة.
وكان يكفي إستخدامهم لكلمة "الإفك" في إتّهام الرّسول (ص) بالكذب، لكنّهم أرادوا تأكيد ذلك المعنى بإستخدامهم لكلمة "مفترى"، دون أن يكون لهم أدنى دليل على ذلك الإدّعاء.
وأخيراً، كان الإتّهام الثالث الذي ألصقوه بالرّسول (ص) هو (السحر) كما نرى ذلك في آخر هذه الآية (وقال الذين كفروا للحقّ لمّا جاءهم إنّ هذا إلاّ سحر مبين).
العجيب أنّ هؤلاء الضالّين يطلقون هذه التّهم الثلاث المذكورة بأصرح التأكيدات، ففي موضع يقولون إنّه سحر، وفي آخر يقولون: إنّه مجرّد كذب، ثمّ يقولون في موضع ثالث; إنّه يريد أن يصدّكم عن مآثر أجدادكم!
طبعاً هذه الصفات الذميمة الثلاثة ليست متضادّة فيما بينها - مع أنّ هؤلاء لا يأنفون من الكلام المتضادّ - وعلى فلا داعي - كما يقول المفسّرين - لإعتبار أنّ كلّ واحدة من هذه الصفات تنسب إلى مجموعة مستقلّة من الكفّار.
كذلك فمن الجدير بالملاحظة أنّ القرآن الكريم إستخدم في المرتين الاُولى والثّانية جملة "قالوا"، ثمّ إستخدم في المرّة الثالثة جملة "قال الذين كفروا"، إشارة إلى أنّ كلّ التعاسة التي أصابتهم إنّما منشأها الكفر وإنكار الحقّ ومعاداة الحقيقة، وإلاّ فكيف يمكن لأحد أن يتّهم رجلا تظهر دلائل حقّانيته من حديثه وعمله وماضيه بهذه التّهم المتلاحقة وبلا أدنى دليل.
فكأنّهم يواصلون بهذه التّهم الثلاث برنامجاً مدروساً لمواجهة النّبي (ص) فقد لاحظوا من جانب أنّ الدين جديد وله جاذبية، ومن جانب آخر، فقد أخافت إنذارات الرّسول (ص) بالعذاب الإلهي في الدنيا والآخرة فئة من المجتمع شاءوا أم أبوا، ومن جانب ثالث فإنّ معجزات الرّسول (ص) تركت أثرها الإيجابي في نفوس عامّة المجتمع - شاءوا أم أبوا كذلك.
لذا فإنّهم - لأجل إبطال مفعول هذه الاُمور الثلاثة - فكّروا بالدعوة إلى حفظ تراث السلف في قبال الدين الجديد، في حين أنّ السلف كان مصداقاً لما ذكره القرآن الكريم (لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) البقرة - 170.
فلا جرم أن يتخلّى الناس عن مثل تلك الهياكل الخرافية التي كانت إرث هؤلاء الجهلة والحمقى.
وأمّا في قبال إنذارات الرّسول (ص) بالعذاب الإلهي، فقد طرحوا قضيّة الإتّهام بالكذب لكي يريحوا العامّة.
وفي قبال المعجزات، طرحوا تهمة (السحر).
ظنّاً منهم أنّ المعجزات لن تترك أثراً في نفوس الناس بسبب هذا التوجيه.
ولكن تاريخ الإسلام شاهد على أنّ أيّاً من هذه المخطّطات الشيطانية لم تكن ذات أثر، وكانت النتيجة أن دخل الناس في هذا الدين العظيم فوجاً بعد فوج.
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا﴾ أي محمد ﴿إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ﴾ بالدعاء إلى اتباعه ﴿وَقَالُوا مَا هَذَا﴾ أي القرآن ﴿إِلَّا إِفْكٌ﴾ كذب ﴿مُّفْتَرًى﴾ على الله ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ﴾ أي القرآن ﴿لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ بين وفي التصريح بكفرهم وحصرهم الحق في السحر مبادهة لمجيئه بلا تأمل أبلغ إنكار وتعجيب.