التّفسير
وما يبديء الباطل وما يعيد:
قلنا أنّ الله تعالى أمر رسوله الكريم (ص) في هذه السلسلة من الآيات الكريمة خمس مرّات بأن يخاطب هؤلاء الضالّين ويقطع عليهم طريق الإعتذار من كلّ جانب.
فالآية السابقة كانت دعوة للتفكّر ونفي أي حالة من عدم التوازن الروحي عن الرّسول الأكرم (ص).
وفي مطلع هذه الآيات، يتحدّث القرآن في عدم مطالبة الرّسول (ص) بأي أجر مقابل تبليغ الرسالة.
تقول الآية الاُولى: (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم، إن أجري إلاّ على الله).
وذلك إشارة إلى أنّ العاقل حينما يتصرّف أي تصرّف يجب أن يكون لتصرفه باعث، فحينما يثبت لكم بأنّ لدي عقل كامل، وترون بأن ليس لي هدف مادّي، فيجب أن تعلموا بأنّ هناك دافعاً ومحرّكاً إلهياً ومعنوياً هو الذي دفعني إلى ذلك التصرّف أو العمل.
بتعبير آخر: أنا دعوتكم للتفكّر، والآن تأمّلوا، واسألوا وجدانكم، أي سبب يدعوني لأن أنذركم من العذاب الإلهي الشديد؟، وأي ربح سوف أجنيه من هذا العمل؟، وأي فائدة مادية لي فيه؟.
إضافةً إلى ذلك فإن كانت حجّتكم في هذا الإعراض ومخالفة الحقّ، هو أنّكم ستدفعون لي أجراً عليه، فسيضيع جزافاً، لأنّي أساساً لم اُطالبكم بأي أجر أو جزاء.
كذلك فقد ورد هذا المعنى بصراحة أيضاً في الآية ( رقم 46) من سورة القلم (أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون).
أمّا ما هو تفسير جملة (فهو لكم)؟ فهناك تفسيران:
الأوّل: أنّ الجملة كناية عن عدم المطالبة بأي أجر كما لو قلت "كلّ ما أردته منك فهو لك" كناية عن أنّك لا تريد شيئاً مطلقاً.
والدليل على ذلك هو الجملة التالية والتي تقول: (إن أجري إلاّ على الله).
الثاني: أنّكم إن لاحظتم أنّي في بعض ما أخبرتكم به عن الله سبحانه وتعالى، قلت لكم: (لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى)(1)، فهذا أيضاً يعود نفعه إليكم، لأنّ مودّة ذي القربى ترتبط بمفهوم (الإمامة والولاية) و "إستمرار خطّ النبوّة، الذي هو ضروري لإدامة هدايتكم.
الدليل على هذا القول هو ما ورد في أسباب النّزول الذي نقله بعضهم هنا، ففي تفسير روح البيان، ورد أنّه عند نزول الآية (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى) قال رسول الله (ص) لمشركي مكّة: "لا تؤذوا ذوي قرباي" وهم قبلوا بهذا الطلب، ولكن عندما نال الرّسول الأكرم (ص) من أصنامهم، قالوا: إنّ محمّداً لم ينصفنا، فهو من جانب يدعونا لعدم التعرّض لذوي قرباه بالأذى، ولكنّه من جانب آخر يمسّ أربابنا بالأذى، وهنا نزلت الآية موضوع بحثنا (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم).
فما أردته منكم بهذا الخصوص هو بنفعكم، سواء آذيتموهم أو لم تؤذوهم.
ثمّ تختم الآية بالقول: (وهو على كلّ شيء شهيد).
فإن كنت اُريد أجري من الله وحده فلأنّه وحده عالم بكلّ أعمالي ومطّلع على نواياي.
علاوةً على أنّه هو سبحانه وتعالى شاهد صدقي وحقّانية دعوتي، لأنّه هو سبحانه سخّر لي كلّ هذه المعجزات والآيات البيّنات، والحقّ أنّه سبحانه وتعالى نعم الشاهد، فهو الذي قد أحاط بكلّ شيء علماً وهو أفضل من يستطيع الأداء، ولا يصدر عنه إلاّ الحقّ وهو خير الشاهدين.
وهو الله سبحانه وتعالى.
﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ﴾ على التبليغ ﴿فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ مطلع يعلم صدقي.