بعدئذ ولزيادة التأكيد يضيف سبحانه وتعالى: (قل جاء الحقّ وما يبدىء الباطل وما يعيد)(2).
وعليه فلن يكون للباطل أي دور مقابل الحقّ، لا خطّة اُولى جديدة، ولا خطّة معادة، إذ أنّ خطط الباطل نقش على الماء، ولهذا السبب فلم يتمكّن الباطل من طمس نور الحقّ ومحو أثره من القلوب.
مع أنّ بعض المفسّرين أرادوا حصر مصاديق "الحقّ" و "الباطل" في هذه الآية في حدود معيّنة، لكن الواضح أنّ مفهوم الإثنين واسع وشامل جدّاً، القرآن، الوحي الإلهيى، تعليمات الإسلام، جميعها مصاديق لمفهوم "الحقّ".
والشرك والكفر، والضلال، والظلم والذنوب، ووساوس الشيطان، والبدع الطاغوتية كلّها تندرج تحت معنى "الباطل"، وفي الحقيقة فإنّ هذه الآية شبيهة بالآية ( رقم 81) من سورة الإسراء، (وقل جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً).
وقد ورد أنّ ابن مسعود قال: دخل رسول الله (ص) مكّة وحول البيت ثلاثمائة وستّون صنماً فجعل يطعنها بعود في يديه ويقول: "جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً - جاء الحقّ وما يبدىء الباطل وما يعيد"(3).
سؤال:
يثار هنا سؤال وهو أنّ الآية أعلاه تقول: إنّه بظهور الحقّ، يمحق الباطل، ويفقد كلّ خلاّقيته، والحال أنّنا نرى أنّ الباطل له جولات وصيت إلى الآن، ويسيطر على مناطق كثيرة؟
وللإجابة على هذا السؤال، يجب الإلتفات إلى ما يلي:
أوّلا: إنّه بظهور الحقّ وإشراقه.
فإنّ الباطل - والذي هو الشرك والنفاق والكفر وكلّ ما ينبع عنها - يفقد بريقه، وإذا استمرّ وجوده فبالقوّة والظلم والضغط، وإلاّ فإنّ النقاب قد اُزيل عن وجهه، وظهرت صورته القبيحة لمن يطلب الحقّ، وهذا هو المقصود من مجيء الحقّ ومحو الباطل.
ثانياً: لأجل تحقّق حكومة الحقّ وزوال حكومة الباطل في العالم، فإضافة إلى الإمكانيات التي يضعها الله في خدمة عباده، هناك شرائط اُخرى مرتبطة بالعباد أنفسهم، والتي أهمّها "القيام بترتيب المقدّمات للإستفادة من تلك الإمكانات الإلهية".
وبتعبير آخر، فإنّ إنتصار الحقّ على الباطل ليس فقط في المناحي العقائدية والمنطقية وفي الأهداف، بل في المناحي الإجرائية على أساسين، "فاعلية الفاعل" و "قابلية القابل" وإذا لم يصل الحقّ إلى النصر على الباطل في المرحلة العملية نتيجة عدم تحقّق (القابلية) فليس ذلك دليلا على عدم إنتصاره.
ولنضرب لذلك مثلا قرآنياً، فالآية الكريمة تقول: (ادعوني أستجب)(4)، ولكن المعلوم لدينا بأنّ إستجابة الدعاء ليست بدون قيد أو شرط، فإن تحقّقت شرائط الدعاء فهو مستجاب قطعاً، وفي غير هذه الحالة ينبغي عدم إنتظار الإستجابة، (شرح هذا المعنى جاء في تفسير الآية 186- من سورة البقرة).
وذلك بالضبط كما لو أنّنا أتينا بطبيب حاذق لمريض ممدّد على فراشه، وعندها نقول له: زادت فرصة النجاة لك، وفي أي وقت أحضرنا له دواء نذكره بأنّنا قد حللنا له مشكلا آخر، في حين أنّ كلّ هذه الاُمور هي من مقتضيات الشفاء وليست (علّة عامّة)، فيجب أن يكون الدواء مؤثّراً في المريض، وأن تراعى توصيات الطبيب، كما أنّه يجب أن لا ننسى الحمية وأثرها، لكي يتحقّق الشفاء العيني والواقعي (تأمّل).
﴿قُلْ جَاء الْحَقُّ﴾ الإسلام ﴿وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾ أي يزهق الكفر ولم يبق له أثر لا بدءا ولا إعادة.