التّفسير
التجارة المربحة مع الله:
بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى مرتبة الخوف والخشية عند العلماء، تشير الآيات مورد البحث إلى مرتبة "الأمل والرجاء" عندهم أيضاً، إذ أنّ الإنسان بهذين الجناحين- فقط- يمكنه أن يحلّق في سماء السعادة، ويطوي سبيل تكامله، يقول تعالى أوّلا: (إنّ الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا ممّا رزقناهم سرّاً وعلانية يرجون تجارةً لن تبور)(1).
بديهي أنّ "التلاوة" هنا لا تعني مجرّد القراءة السطحية الخالية من التفكّر والتأمّل، بل قراءة تكون سبباً وباعثاً على التفكّر، الذي يكون بدوره باعثاً على العمل الصالح، الذي يربط الإنسان بالله من جهة، ومظهر ذلك الصلاة، ويربطه بخلق الله من جهة ثانية، ومظهر ذلك الإنفاق من كلّ ما تفضّل به الله تعالى على الإنسان، من علمه، من ماله وثروته ونفوذه، من فكره الخلاّق، من أخلاقه وتجاربه، من جميع ما وهبه الله.
هذا الإنفاق تارةً يكون (سرّاً)، فيكون دليلا على الإخلاص الكامل. وتارةً يكون (علانية) فيكون تعظيماً لشعائر الله ودافعاً للآخرين على سلوك هذا الطريق.
ومع الإلتفات إلى ما ورد في هذه الآية والآية السابقة نستنتج أنّ العلماء حقّاً هم الذين يتّصفون بالصفات التالية:
- قلوبهم مليئة بالخشية والخوف من الله المقترن بتعظيمه تعالى.
- ألسنتهم تلهج بذكر الله وتلاوة آياته.
- يصلّون ويعبدون الله.
- ينفقون في السرّ والعلانية ممّا عندهم.
- وأخيراً ومن حيث الأهداف، فإنّ اُفق تفكيرهم سام إلى درجة أنّهم أخرجوا من قلوبهم هذه الدنيا الماديّة الزائلة، ويتأمّلون ربحاً من تجارتهم الوافرة .. الربح مع الله وحده، لأنّ اليد التي تمتدّ إليه لا تخيب أبداً.
والجدير بالملاحظة أيضاً أنّ "تبور" من "البوار" وهو فرط الكساد، ولمّا كان فرط الكساد يؤدّي إلى الفساد كما قيل "كسد حتّى فسد" عُبّر بالبوار عن الهلاك، وبذا فإنّ "التجارة الخالية من البوار" تجارة خالية من الكساد والفساد.
ورد في حديث رائع أنّه جاء رجل إلى رسول الله (ص) فقال: يارسول الله، ما لي لا أحبّ الموت؟ قال: "ألك مال" قال: نعم.
قال: "فقدّمه" قال: لا أستطيع. قال: "فإنّ قلب الرجل مع ماله، إن قدّمه أحبّ أن يلحق به، وإن أخّره أحبّ أن يتأخّر معه"(2).
إنّ هذا الحديث في الحقيقة يعكس روح الآية أعلاه، لأنّ الآية تقول إنّ الذين يقيمون الصلاة، وينفقون في سبيل الله لهم أمل وتعلّق بدار الآخرة، لأنّهم أرسلوا الخيرات قبلهم ولهم الميل للحوق به.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ﴾ يقرءون القرآن أو يتبعونه بالعمل بما فيه ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ المسنون والمفروض ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً﴾ كسب ثواب بذلك خبر إن ﴿لَّن تَبُورَ﴾ لن تكسد ولن تهلك.