لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
الآية التّالية تتحدّث في موضوع مهم بالنسبة إلى حملة هذا الكتاب السماوي العظيم، اُولئك الذين رفعوا مشعل القرآن الكريم بعد نزوله على الرّسول الأكرم(ص)، في زمانه وبعده على مرّ القرون والعصور، وهم يحفظونه ويحرسونه، فتقول: (ثمّ أورثنا للكتاب الذين اصطفينا من عباده). واضح أنّ المقصود من "الكتاب" هنا، هو نفس ما ذكر في الآية السابقة وهو "القرآن الكريم" والألف واللام فيه "للعهد". والقول بأنّ المراد هو الإشارة للكتب السماوية، وأنّ اللام هنا "للجنس" يبدو بعيد الإحتمال، وليس فيه تناسب مع ما ورد في الآيات السابقة. التعبير بـ "الإرث" هنا وفي موارد اُخرى مشابهة في القرآن الكريم، لأجل أنّ "الإرث" يطلق على ما يستحصل بلا مشقّة أو جهد، والله سبحانه وتعالى أنزل هذا الكتاب السماوي العظيم للمسلمين هكذا بلا مشقّة أو جهد. لقد وردت روايات كثيرة هنا من أهل البيت (ع) في تفسير عبارة (الذين اصطفينا) بالأئمّة المعصومين (ع)(5). هذه الروايات- كما ذكرنا مراراً- ذكر لمصاديق واضحة وفي الدرجة الاُولى. ولكن لا مانع من إعتبار العلماء والمفكّرين في الاُمّة، والصلحاء والشهداء، الذين سعوا واجتهدوا في طريق حفظ هذا الكتاب السماوي، والمداومة على تطبيق أوامره ونواهيه، تحت عنوان (الذين اصطفينا من عبادنا). ثمّ تنتقل الآية إلى تقسيم مهمّ بهذا الخصوص، فتقول: (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير). ظاهر الآية هو أنّ هذه المجاميع الثلاثة هي من بين (الذين اصطفينا) أي: ورثة وحملة الكتاب السماوي. وبتعبير أوضح، إنّ الله سبحانه وتعالى قد أوكل مهمّة حفظ هذا الكتاب السماوي، بعد الرّسول الأكرم (ص) إلى هذه الاُمّة، الاُمّة التي إصطفاها الله سبحانه، غير أنّ في تلك الاُمّة مجاميع مختلفة: بعضهم قصّروا في وظيفتهم العظيمة في حفظ هذا الكتاب والعمل بأحكامه، وفي الحقيقة ظلموا أنفسهم، وهم مصداق (ظالم لنفسه). ومجموعة اُخرى، أدّت وظيفتها في الحفظ والعمل بالأحكام إلى حدّ كبير، وإن كان عملها لا يخلو من بعض الزلاّت والتقصيرات أيضاً، وهؤلاء مصداق "مقتصد". وأخيراً مجموعة ممتازة، أنجزت وظائفها العظيمة بأحسن وجه، وسبقوا الجميع في ميدان الإستباق، والذين أشارت إليهم الآية بقولها: (سابق بالخيرات بإذن الله). وهنا يمكن أن يقال بأنّ وجود المجموعة "الظالمة" ينافي أنّ هؤلاء جميعاً مشمولون بقوله "اصطفينا"؟ وفي الجواب نقول: إنّ هذا شبيه بما ورد بالنسبة إلى بني إسرائيل في الآية (53) من سورة المؤمن: (ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب)، في حال أنّنا نعلم أنّ بني إسرائيل جميعهم لم يؤدّوا وظيفتهم إزاء هذا الميراث العظيم. أو نظير ما ورد في الآية (110) من سورة آل عمران: (كنتم خير اُمّة اُخرجت للناس). أو ما ورد في الآية (16) من سورة الجاثية بخصوص بني إسرائيل أيضاً (وفضّلناهم على العالمين). وكذلك في الآية (26) من سورة الحديد نقرأ: (ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذرّيتهما النبوّة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون). وخلاصة القول: إنّ الإشارة في أمثال هذه التعبيرات ليست للاُمّة بأجمعها فرداً فرداً، بل إلى مجموع الاُمّة، وإن احتوت على طبقات، ومجموعات مختلفة(6). وقد ورد في روايات كثيرة عن أهل بيت العصمة (ع) في تفسير "سابق بالخيرات" بالمعصوم (ع)، و "ظالم لنفسه" بمن لا يعرف الإمام، و "المقتصد" العارف بالإمام(7). هذه التّفسيرات شاهد واضح على ما إخترناه لتفسير الآية، وهو أنّه لا مانع من كون هذه المجاميع الثلاثة ضمن ورثة الكتاب الإلهي. ولا نحتاج إلى التذكير بأنّ تفسير الروايات أعلاه هو من قبيل بيان المصاديق الأوضح للآية، وهم الأئمّة المعصومون، إذ هم الصفّ الأوّل، بينما العلماء والمفكّرون وحماة الدين الآخرون في صفوف اُخرى. كذلك فإنّ التّفسير الوارد في تلك الروايات للظالم والمقتصد، هو أيضاً من قبيل بيان المصاديق، وإذا لاحظنا أنّ بعض الرّوايات تنفي شمول الآية للعلماء في مقصودها فإنّ ذلك في الحقيقة لإلفات النظر إلى وجود الإمام في مقدّمة تلك الصفوف. ومن الجدير بالذكر أنّ جمعاً من المفسّرين القدماء والمعاصرين احتملوا الكثير من الإحتمالات في تفسير هذه المجاميع، والتي هي في الحقيقة جميعاً من قبيل بيان المصاديق(8). وهنا يطرح السؤال التالي: لماذا ابتدأ الحديث بذكر الظالمين كمجموعة اُولى، ثمّ المقتصد، ثمّ السابقين بالخيرات، في حين أنّ العكس يبدو أولى من عدّة جهات؟ بعض كبار المفسّرين قالوا للإجابة على هذا السؤال: إنّ الهدف هو بيان ترتيب مقامات البشر في سلسلة التكامل، لأنّ أوّل المراحل هي مرحلة العصيان والغفلة، وبعدها مقام التوبة والإنابة، وأخيراً التوجّه والإقتراب من الله سبحانه وتعالى، فحين تصدر المعصية من الإنسان فهو "ظالم لنفسه"، وحين يلج مقام التوبة فهو "مقتصد"، وحين تقبل توبته ويزداد جهاده في طريق الحقّ، ينتقل إلى مقام القرب ليرقى إلى مقام "السابقين بالخيرات"(9). وقال آخر: بأنّ هذا الترتيب لأجل الكثرة والقلّة في العدد والمقدار، فالظالمون يشكّلون الأكثرية، والمقتصدون في المرتبة التالية، والسابقون للخيرات وهم الخاصّة والأولياء من الناس هم الأقلّية وان كانوا أفضل من الناحية الكيفيّة. الملفت للتأمّل ما نقل في حديث عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: (ما مؤدّاه): "قُدّم الظالم لكي لا ييأس من رحمة الله، وأخّر السابقون بالخيرات لكي لا يأخذهم الغرور بعملهم"(10). ويمكن أن يكون كلّ من هذه المعاني الثلاثة مقصوداً. وآخر كلام في تفسير هذه الآية حول المشار إليه في جملة (ذلك هو الفضل الكبير)؟ قال البعض، بأنّه ميراث الكتاب الإلهي، وقال آخرون بأنّه إشارة إلى التوفيق التي شمل حال السابقين بالخيرات، وطيّهم لهذا الطريق بإذن الله، لكن يبدو أنّ المعنى الأوّل أنسب وأكثر إنسجاماً مع ظاهر الآية. ملاحظة من هم حرّاس الكتاب الإلهي؟ على ما ذكر القرآن الكريم فإنّ الله سبحانه وتعالى يشمل الاُمّة الإسلامية بمواهب عظيمة، من أهمّها ذلك الميراث الإلهي العظيم وهو "القرآن". وقد اُصطفيت الاُمّة الإسلامية من باقي الاُمم، وتلك نعمة اُعطيت لها، ومسؤولية ثقيلة اُسندت إليها بنفس النسبة التي فضّلت بها وأصبحت بسببها مشمولة باللطف الإلهي، وستكون هذه الاُمّة في صف "السابقين بالخيرات" ما أدّت حقّ حفظ وحراسة هذا الميراث العظيم. أي أن تسبق جميع الاُمم في الخيرات، في تطوير العلوم، في التقوى والزهد، في العبادة وخدمة البشرية، في الجهاد والإجتهاد، في التنظيم والإدارة، في الفداء والإيثار والتضحية، فتتقدّم وتسبق في كلّ هذه الاُمور، وإلاّ فإنّها لا تكون قد أدّت حقّ حفظ ذلك الميراث العظيم. خاصّة إذا علمنا أنّ تعبير "السابقين بالخيرات" مفهوم واسع إلى درجة أنّه يشمل التقدّم في جميع الاُمور ذات المنحى الإيجابي من اُمور الحياة. نعم، فحملة مثل هذا الميراث هم- فقط- اُولئك الذين يتّصفون بتلك الصفات، بحيث أنّهم لو أعرضوا عن تلك الهدية السماوية العظيمة ولم يراعوا حرمتها، فسيكونون مصداقاً لـ "ظالم لنفسه"، إذ أنّ محتوى تلك الهدية الإلهية ليس سوى نجاتهم وتوفيقهم وإنتصارهم، فإنّ من يضرب عرض الحائط بنسخة الدواء التي كتبها له الطبيب، فإنّه يساعد على إستمرار الألم والعذاب لنفسه. وإنّ من يحطّم مصباحه الوحيد وهو يسير في طريق مظلم، إنّما يسوق نفسه إلى التيه والضياع، لأنّ الله سبحانه وتعالى غني عن الجميع. وعلى المذنبين أيضاً أن لا ينسوا حقيقة أنّهم كانوا مشمولين بمضمون الآية الكريمة في زمرة (الذين إصطفينا) وإنّ لهم ذلك الإستعداد بالقوّة، فعليهم أن يتجاوزوا مرحلة "الظالم لنفسه" وينتقلوا إلى مرحلة "المقتصد" وليرتقوا من هناك حتّى ينالوا فخر "السابقين بالخيرات"، حيث أنّهم من جهة الفطرة والبناء الروحي من الذين إصطفاهم الحقّ. ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ﴾ عبر بالماضي لتحققه ﴿الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ وهم علماء الأمة أو جميعها، عنهم (عليهم السلام): هي لنا خاصة ﴿فَمِنْهُمْ﴾ من عبادنا أو ممن اصطفينا ﴿ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ﴾ راجح السيئات ﴿وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ﴾ متساوي الحسنات والسيئات ﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ راجح الحسنات وقيل الظالم صاحب الكبيرة والمقتصد صاحب الصغيرة والسابق المعصوم وقيل الظالم الجاهل والمقتصد المتعلم والسابق العالم، وعن الصادق (عليه السلام): الظالم منا من لا يعرف حق الإمام والمقتصد من يعرف حقه والسابق الإمام، وقدم الظالم لكثرة أفراده ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ إشارة إلى الإيراث والسبق.