التّفسير
السماوات والأرض بيد القدرة الإلهية:
تنتقل الآيات إلى مرحلة اُخرى من تشخيص عوامل ضعف وبطلان مناهج الكفّار والمشركين في التعامل أو التفكير لتكمل البحوث التي مرّت في الآيات السابقة، فتقول أوّلا: (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض).
"خلائف" هنا سواء كانت بمعنى خلفاء وممثّلي الله في الأرض، أم بمعنى خلفاء الأقوام السابقين (وإن كان المعنى الثاني هنا أقرب على ما يبدو) فهي دليل على منتهى اللطف الإلهي على البشر حيث أنّه قيّض لهم جميع إمكانات الحياة. أعطاهم العقل والشعور والإدراك، أعطاهم أنواع الطاقات الجسدية، ملأ للإنسان صفحة الأرض بمختلف أنواع النعم والبركات، وعلّمه طريقة الإستفادة من تلك الإمكانات، فكيف نسي الإنسان والحال هذه ولي نعمته الأصلي، وراح يعبد آلهة خرافية ومصنوعة؟!
هذه الجملة في الحقيقة بيان لـ "توحيد الربوبية" الذي هو دليل على "توحيد العبادة". وهذه الجملة أيضاً تنبيه للبشر جميعاً ليعلموا بأنّ مكثهم ليس أبديّاً ولا خالداً، فكما أنّهم خلائف لأقوام آخرين، فما هي إلاّ مدّة حتّى ينتهي دورهم ويكون غيرهم خلائف لهم، لذا فإنّ عليهم أن يتأمّلوا ويفكّروا ماذا يعملون خلال هذه المدّة القصيرة، وكيف سيذكرهم التأريخ في هذا العالم؟
لذا تردف الآية قائلة: (فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربّهم إلاّ مقتاً ولا يزيد الكافرين كفرهم إلاّ خساراً).
الجملتان الأخيرتان في الواقع تفسير الجملة (من كفر فعليه كفره) فهما تقيمان دليلين على رجوع الكفر على صاحبه كالآتي:
الأوّل: إنّ هذا الكفر يؤدّي إلى غضب الله الذي أعطى كلّ هذه المواهب.
والثاني: أنّه علاوة على هذا الغضب الإلهي فإنّ هذا الكفر سوف لن يزيد الظالمين إلاّ خسارة وضرراً بإتلافهم رأس مالهم المتمثّل بأعمارهم ووجودهم، وشرائهم للشقاء والإنحطاط والظلمة، وأي خسارة أكثر من هذه.
وكلّ واحد من هذين الدليلين كاف لشجب وإبطال ذلك المنهج الباطل في التعامل مع الحياة.
تكرار (لا يزيد) بصيغة المضارع، إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ الإنسان الميّال بالطبع إلى البحث عن الزيادة، إذا سار في طريق التوحيد فسيزداد سعادة وكمالا، وإذا سلك طريق الكفر فسوف يتعرّض لمزيد من غضب الباري عزّوجلّ ويكون نصيبه الضرر والخسارة.
من الجدير بالذكر أيضاً أنّ الغضب الإلهي ليس بمعنى الغضب الذي يحصل للإنسان، لأنّ هذا الغضب في الإنسان عبارة عن نوع من الهيجان والإنفعال الداخلي الذي يكون سبباً في صدور أفعال قويّة وحادّة وخشنة، وفي تعبئة كافّة طاقات الإنسان للدفاع أو الإنتقام، وأمّا بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى فليس لأيّ من هذه الآثار التي هي من خواص الموجودات المتغيّرة والممكنة أثر في غضبه، فغضبه بمعنى رفع الرحمة ومنع اللطف الإلهي من شمول اُولئك الذين ارتكبوا السيّئات.
الآية التالية ترد على المشركين بجواب قاطع حازم، وتذكّرهم بأنّ الإنسان إذا اتّبع أمراً أو تعلّق بأمر، فيجب أن يكون هناك دليل عقلي على هذا الأمر، أو دليل نقلي ثابت، وأنتم أيّها الكفّار حيث لا تملكون أيّاً من الدليلين فليس لديكم سوى المكر والغرور.
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ﴾ جمع خليف أي تخلفون من قبلكم في التصرف فيها أو يخلف بعضكم بعضا ﴿فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ وبال كفره ﴿وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا﴾ أشد البغض ﴿وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا﴾ للآخرة.