الآية التالية تدعو هؤلاء المشركين والمجرمين إلى مطالعة آثار الماضين والمصير الذي وصلوا إليه، حتّى يروا بأُمّ أعينهم في آثارهم ومواطنهم السابقة جميع ما سمعوه، وبذا يتحوّل البيان إلى العيان. فتقول الآية الكريمة: (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم).
فإذا كانوا يتصوّرون أنّهم أشدّ قوّة من اُولئك فهم على إشتباه عظيم تلك، لأنّ الأقوام السالفة كانت أقوى منهم: (وكانوا أشدّ منهم قوّةً).
فالفراعنة الذين حكموا مصر، ونمرود الذي حكم بابل ودولا اُخرى بمنتهى القدرة، كانوا أقوياء إلى درجة لا يمكن قياسها مع قوّة مشركي مكّة.
إضافةً إلى أنّ الإنسان مهما بلغ من القوّة والقدرة، فإنّ قدرته وقوّته لا شيء إزاء قوّة الله، لماذا؟ لأنّه (وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض)(8) فهو العليم القدير، لا يخفى عليه شيء، ولا يستعصي على قدرته شيء، ولا يغلبه أحد، فلو تصوّر هؤلاء المستكبرون الماكرون أنّهم يستطيعون الفرار من يد قدرته تعالى فهم مشتبهون أشدّ الإشتباه. وإذا لم ينفضوا أيديهم من تلك الأعمال السيّئة، فسوف يلاقون نفس المصير الذي لقيه من كان قبلهم.
يمرّ بنا مراراً التعرّض لهذا الأمر في القرآن الكريم، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى يدعو الكفّار والعاصين إلى "السير في الأرض" ومشاهدة آثار الأقوام الماضين ومصائرهم الأليمة.
ورد في الآية (التاسعة) من سورة الروم (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشدّ منهم قوّة وأثاروا الأرض وعمّروها أكثر ممّا عمّروها وجاءتهم رسلهم بالبيّنات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).
وورد شبيه هذا المعنى في سورة يوسف- 109، والحجّ- 46، وغافر 21 و82، والأنعام- 11 إلى غير ذلك.
هذا التأكيد المتكرّر دليل على التأثير الخاصّ لتلك المشاهدات في النفس الإنسانية، فإنّ عليهم أن يروا بأعينهم ما قرأوه في التأريخ أو سمعوه، ليذهبوا وينظروا عروش الفراعنة المحطّمة. وقصور الأكاسرة المدمّرة، وقبور القياصرة الموحشة، وعظام نمرود المتفسّخة، وأرض قوم لوط وثمود الخالية، ثمّ ليستمعوا إلى نصائحهم الصامتة، وأنينهم من تحت التراب، وينظروا باُمّ أعينهم ماذا حلّ بهؤلاء.
﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ مما يشاهدونه من آثار إهلاكهم ﴿وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ﴾ ليسبقه ويفوته ﴿مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا﴾ بكل شيء ﴿قَدِيرًا﴾ على ما يشاء.