الآية التي بعدها تواصل وصف تلك الفئة المعاندة، فتقول: (إنّا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون) أي مرفوعي الرأس لوجود الغلّ حول الأعناق.
"أغلال" جمع "غل": من مادّة "غلل" ويعني تدرع الشيء وتوسطه، ومنه الغلل (على وزن عمل) للماء الجاري بين الشجر. و "الغل" الحلقة حول العنق أو اليدين وتربط بعد ذلك بسلسلة، وبما أنّ العنق أو اليدين تقع في ما بينها فقد إستعملت هذه المفردة في هذا المورد، وحيناً تكون الأغلال في العنق مربوطة بسلسلة مستقلّة عمّا تربط به أغلال الأيدي، وحيناً تكون جميعها مربوطة بسلسلة واحدة فيكون الشخص بذلك تحت ضغط شديد وفي محدودية وعذاب شديدين.
وإذا قيل لحالة العطش الشديد أو الحسرة والغضب "غُلة" فإنّ ذلك لنفوذ تلك الحالة في داخل قلب وجسم الإنسان، وأساساً فإنّ مادّة "غَل"- على وزن جدّ- بمعنى الدخول أو الإدخال، لذا قيل عن حاصل الكسب أو الزراعة وأمثالها "غَلة"(9).
وقد تكون حلقة "الغل" حول الرقبة عريضة أحياناً بحيث تضغط على الذقن وترفع الرأس إلى الأعلى، من هنا فإنّ المقيّد يتحمّل عذاباً فوق العذاب الذي يتحمّله من ذلك القيد بأنّه لا يستطيع مشاهدة أطرافه.
ويا له من تمثيل رائع حيث شبّه القرآن الكريم حال عبدة الأوثان المشركين بحال هذا الإنسان، فقد طوّقوا أنفسهم بطوق "التقليد الأعمى"، وربطوا ذلك بسلسلة "العادات والتقاليد الخرافية" فكانت تلك الأغلال من العرض والإتّساع أنّها أبقت رؤوسهم تنظر إلى الأعلى وحرمتهم بذلك من رؤية الحقائق، وبذلك فإنّهم أسرى لا يملكون القدرة والفعّالية والحركة، ولا قدرة الإبصار(10).
على أيّة حال فإنّ الآية أعلاه، تعتبر شرحاً لحال تلك الفئة الكافرة في الدنيا وحالهم في عالم الآخرة الذي هو تجسيد لمسائل هذا العالم، وليس من الغريب إستخدام صيغة الماضي في تصوير حال الآخرة هنا، فإنّ الكثير من الآيات القرآنية الكريمة تتكلّم بصيغة الماضي حينما تتعرّض إلى الحوادث المسلّم بها في المستقبل للدلالة على مضارع متحقّق الوقوع، وبذلك يمكن أن تكون إشارة إلى كلا المعنيين حالهم في الدنيا وحالهم في الآخرة.
جمع من المفسّرين ذكروا في أسباب نزول هذه الآية والآية التالية لها أنّهما نزلتا في (أبي جهل) أو (رجل من مخزوم) أو قريش، الذين صمّموا مراراً على قتل الرّسول (ص) ولكن الله سبحانه وتعالى منعهم من ذلك بطريقة إعجازية فكلّما أرادوا إنزال ضربة بالنّبي عميت عيونهم عن الإبصار أو أنّهم سلبوا القدرة على التحرّك تماماً(11).
ولكن سبب النّزول ذلك لا يمنع من عمومية مفهوم الآية وسعة معناها، بحيث يشمل جميع أئمّة الكفر والمعاندين، وفي الضمن فهي تعتبر تأييداً لما قلناه في تفسير (فهم لا يؤمنون) في أنّ المقصود بهم هم أئمّة الكفر والنفاق وليس أكثرية المشركين.
﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً﴾ مثلوا في تصميمهم على الكفر وإعراضهم عن الإيمان بمن غلت أعناقهم ﴿فَهِيَ﴾ أي فالأيدي المدلول عليها بالغل مجموعة ﴿إِلَى الأَذْقَانِ﴾ جمع ذقن مجمع اللحيين ﴿فَهُم مُّقْمَحُونَ﴾ مرفوعة رءوسهم لا يستطيعون حفظها