التّفسير
المجاهدون الذين حملوا أرواحهم على الأكف!
تشير هذه الآيات إلى جانب آخر من جهاد الرسل الذي وردت الإشارة إليه في هذه القصّة. والإشارة تتعلّق بالدفاع المدروس للمؤمنين القلائل وبشجاعتهم في قبال الأكثرية الكافرة المشركة .. وكيف وقفوا حتّى الرمق الأخير متصدّين للدفاع عن الرسل.
تشرع هذه الآيات بالقول: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال ياقوم اتّبعوا المرسلين).
هذا الرجل الذي يذكر أغلب المفسّرين أنّ اسمه "حبيب النجّار" هو من الأشخاص الذين قُيّض لهم الإستماع إلى هؤلاء الرسل والإيمان وأدركوا بحقّانية دعوتهم ودقّة تعليماتهم، وكان مؤمناً ثابت القدم في إيمانه، وحينما بلغه بأنّ مركز المدينة مضطرب ويحتمل أن يقوم الناس بقتل هؤلاء الأنبياء، أسرع- كما يستشفّ من كلمة يسعى- وأوصل نفسه إلى مركز المدينة ودافع عن الحقّ بما إستطاع. بل إنّه لم يدّخر وسعاً في ذلك.
التعبير بـ "رجل" بصورة النكرة يحتمل انّه إشارة إلى أنّه كان فرداً عادياً، ليس له قدرة أو إمكانية متميّزة في المجتمع، وسلك طريقه فرداً وحيداً. وكيف أنّه في نفس الوقت دخل المعركة بين الكفر والإيمان مدافعاً عن الحقّ، لكي يأخذ المؤمنين في عصر الرّسول الأكرم (ص) درساً بأنّهم وإن كانوا قلّة في عصر صدر الإسلام، إلاّ أنّ المسؤولية تبقى على عواتقهم، وأنّ السكوت غير جائز حتّى للفرد الواحد.
التعبير بـ "أقصى المدينة" يدلّل على أنّ دعوة هؤلاء الأنبياء وصلت إلى النقاط البعيدة من المدينة، وأثّرت على القلوب المهيّأة للإيمان، ناهيك عن أنّ أطراف المدن عادةً تكون مراكز للمستضعفين المستعدين أكثر من غيرهم لقبول
الحقّ والتصديق به، على عكس ساكني مراكز المدن الذين يعيشون حياة مرفّهة تجعل من الصعب قبولهم لدعوة الحقّ.
التعبير بـ "ياقوم" يوضّح حرقة هذا الرجل وتألمّه على أهل مدينته، ودعوته إيّاهم إلى اتّباع الرسل، تلك الدعوة التي لم تكن لتحقّق له أي نفع شخصي.
والآن لننظر إلى هذا الرجل المجاهد، بأي منطق وبأي دليل خاطب أهل مدينته؟
فقد أشار أوّلا إلى هذه القضيّة (اتّبعوا من لا يسألكم أجراً). فتلك القضيّة بحدّ ذاتها الدليل الأوّل على صدق هؤلاء الرسل، فهم لا يكسبون من دعوتهم تلك أيّة منفعة ماديّة شخصية، ولا يريدون منكم مالا ولا جاهاً ولا مقاماً، وحتّى أنّهم لا يريدون منكم أن تشكروهم. والخلاصة: لا يريدون منكم أجراً ولا أي شيء آخر.
وهذا ما أكّدت عليه الآيات القرآنية مراراً فيما يخصّ الأنبياء العظام، كدليل على إخلاصهم وصفاء قلوبهم، وفي سورة الشعراء وحدها تكرّرت هذه الجملة خمس مرّات (وما أسألكم عليه من أجر)(1).
ثمّ يضيف: إنّ هؤلاء الرسل كما يظهر من محتوى دعوتهم وكلامهم انّهم أشخاص مهتدون: (وهم مهتدون) إشارة إلى أنّ عدم الإستجابة لدعوة ما إنّما يكون لأحد سببين: إمّا لأنّ تلك الدعوة باطلة وتؤدّي إلى الضلال والضياع، أو لأنّها حقّ ولكن الدعاة لها يكتسبون من تلك الدعوة منافع شخصية لهم ممّا يؤدّي إلى تشويه النظرة إلى تلك الدعوة، ولكن حينما لا يكون هذا ولا ذاك فما معنى التردّد والتباطىء عن الإستجابة.
﴿وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى﴾ يعدو وهو حبيب النجار ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾.