وأهمّ من كلّ ذلك، المواهب المعنوية التي أشارت إليها آخر آية بقولها: (سلام قولا من ربٍّ رحيم)(4).
هذا النداء الذي تخفّ له الروح، فيملؤها بالنشاط، هذا النداء المملوء بمحبّة الله، يجعل الروح الإنسانية تتسلّق الأفراح نشوى بالمعنويات التي لا يرقى إليها وصف ولا تعادلها أيّة نعمة اُخرى. نعم فسماع نداء المحبوب، النداء الندي بالمحبّة، المعطّر باللطف، يغمر سكّان الجنّة بالحبور ... الحبور الذي تعادل اللحظة منه جميع ما في الدنيا، بل ويفيض عليه.
ففي رواية عن النّبي (ص) أنّه قال: (بينا أهل الجنّة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الربّ قد أشرف من فوقهم فقال: السلام عليكم ياأهل الجنّة، وذلك قول الله تعالى: (سلام قولا من ربٍّ رحيم) قال فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتّى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم)(5).
نعم فإنّ جذبة مشاهدة المحبوب، ورؤية لطفه، تبعث اللذّة والشوق في النفس بحيث أنّ لحظة واحدة من تلك المشاهدة العظيمة لا يمكن مقارنتها بأيّة نعمة، بل بالعالم أجمع، وعشّاق رؤيته والنظر إليه هائمون في ذلك إلى درجة أنّه لو قطعت عنهم تلك الإفاضة المعنوية فإنّهم يحسّون بالحسرة والألم، وكما ورد في حديث لأمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام (لو حجبت عنه ساعة لمتّ)(6).
الملفت للنظر أنّ ظاهر الآية يشير إلى أنّ سلام الله الذي ينثره على المؤمنين في الجنّة، هو سلام مستقيم بلا واسطة، سلام منه تعالى، وأي سلام ذلك الذي يمثّل رحمته الخاصّة! أي أنّه ينبعث من مقام رحيميته وجميع ألطافه وكراماته مجموعة فيه، ويا لها من نعمة عظيمة!!
ملاحظة
أنواع (السلام) المنثور على أهل الجنّة
الجنّة هي (دار السلام) كما ورد في الآية (25) من سورة يونس حيث نقرأ: (والله يدعو إلى دار السلام).
وأهل الجنّة الذين يسكنون هناك، يقابلون بسلام الملائكة حينما يدخلون عليهم الجنّة (والملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار).(7)
ويناديهم ساكنو الأعراف ويسلّمون عليهم (ونادوا أصحاب الجنّة أن سلاماً عليكم).(8) وعندما يدخلون الجنّة يقابلون بسلام وتحيّة الملائكة.
وحينما تقبض الأرواح يتلقّى المؤمن هذا السلام من ملائكة الموت: (الذين تتوفّاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون).(9)
ويسلّم بعضهم على بعض (تحيتهم فيها سلام).(10)
وأخيراً، أسمى وأعظم سلام هو سلام الله عزّوجلّ (سلام قولا من ربّ رحيم).
الخلاصة: (لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلاّ قيلا سلاماً سلاماً).(11)
والسلام ليس لفظاً فحسب، بل سلام يؤدّي إلى خلق الهدوء والسلامة، وينفذ في أعماق الروح الإنسانية ويغمرها بالهدوء والسلام.
﴿سَلَامٌ﴾ بدل من ما أو خبر محذوف أو مبتدأ حذف خبره أي ولهم سلام ﴿قَوْلًا﴾ يقال لهم ﴿مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾.