ثمّ يشير تعالى إلى شهود يوم القيامة... الشهود الذين هم جزء من جسد الإنسان، حيث لا مجال لإنكار شهادتهم، فيقول تعالى: (اليوم نختم على أفواههم وتكلّمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون).
نعم ففي ذلك اليوم لا تكون أعضاء الإنسان طوع إرادته وميوله، فهي بأجمعها تتخلّى عن إمتثال أمره وتستسلم لأمر الله سبحانه، ويالها من محكمة عجيبة تلك المحكمة التي شهودها نفس أعضاء الإنسان. تلك الأعضاء التي كانت الوسائل لإرتكاب المعاصي والذنوب.
ويحتمل أن تكون شهادة الأعضاء، بسبب أنّ المجرمين حينما يرون بأنّهم سيصلون جهنّم جزاء أعمالهم، يميلون إلى إنكار ما ارتكبوا ظنّاً منهم أنّه يمكن الإفلات بإخفاء الحقائق والإنكار، إلاّ أنّ الأعضاء تبدأ هنا بالشهادة، الأمر الذي يثير عجب اُولئك المجرمين ووحشتهم ويغلق عليهم جميع طرق الفرار والخلاص.
أمّا عن كيفية نطق تلك الأعضاء، فثمّة تفسيرات وإحتمالات عديدة:
1- انّ الله سبحانه وتعالى يجعل في كلّ واحد من تلك الأعضاء القدرة على التكلّم والشعور، وهي تقوم بنقل الحقيقة بصدق، وما هو العجب في ذلك؟ فمن جعل في قطعة من اللحم المسمّاة (لسان) أو (مخ الإنسان) القدرة على النطق، يستطيع أن يجعل هذه القدرة في سائر أعضاء البدن أيضاً.
2- أنّ تلك الأعضاء لا تُعطى الإدراك والشعور، ولكن الله سبحانه وتعالى ينطقها، وفي الحقيقة فإنّ تلك الأعضاء ستكون محلا لظهور الكلام، وإنكشاف الحقائق بإذن الله.
3- أنّ أعضاء البدن الإنساني تحتفظ بآثار الأعمال التي قامت بها في الدنيا، إذ أنّ أي عمل في هذه الدنيا لا يفنى، بل إنّ آثاره ستبقى على كلّ عضو من البدن، وفي الفضاء المحيط بها، وفي ذلك اليوم الذي هو يوم الظهور والتجلّي، ستظهر هذه الآثار على اليد والقدم وسائر الأعضاء، وظهور تلك الآثار هو منزلة الشهادة. وهذا تماماً كما يرد في لغتنا المعاصرة حينما نقول: (عينك تشهد على سهرك)، أو (الجدران تبكي صاحب الدار).
وعلى كلّ حال، فإنّ من المسلّمات شهادة الأعضاء في يوم القيامة، ولكن هل أنّ كلّ عضو يكشف عن فعله فحسب، أو يكشف عن كلّ الأعمال؟ فلا شكّ أنّ الإحتمال الأوّل هو الأنسب، لذا فإنّ الآيات القرآنية الكريمة الاُخرى تذكر شهادة الاُذن والعين والجلد، كما في الآية (20) من سورة فصلت حين يقول تعالى: (حتّى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) أو ما ورد في الآية (24) من سورة النور من قوله تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون).
والجدير بالملاحظة أنّه تعالى في سورة النور يقول: (تشهد عليهم ألسنتهم)وفي الآية مورد البحث يقول: (اليوم نختم على أفواههم)، ومن الممكن أن يكون ما يحصل هناك هو أن يختم على فم المجرم أوّلا لتشهد أعضاؤه، وبعد أن يرى بنفسه شهادة أعضائه، يفتح لسانه، ولأنّه لا مجال للإنكار فإنّ لسانه أيضاً يقرّ بالحقيقة.
وكذلك يحتمل أن يكون المقصود من كلام اللسان هو الكلام الداخلي الذي ينبعث منه كما في سائر الأعضاء، وليس نطقه العادي.
آخر ما نريد قوله بخصوص موضوع تكلّم الأعضاء هو أنّ ذلك خاص بالمجرمين، وإلاّ فالمؤمنون حسابهم واضح، لذا ورد في الحديث عن الباقر (ع).
(ليست تشهد الجوارح على مؤمن، إنّما تشهد على من حقّت عليه كلمة العذاب، فأمّا المؤمن فيعطى كتابه بيمينه، قال الله عزّوجلّ: (فمن اُوتي كتابه بيمينه فاُولئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا)(2).
﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ﴾ نمنعها النطق ﴿وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ بإنطاق الله إياها.