لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
الآية الأخيرة من هذه الآيات وهي في ذات الوقت آخر آية من سورة "يس" تنهي البحث في مسألة المبدأ والمعاد بشكل جميل وبطريقة الإستنتاج الكلّي فتقول: (فسبحان الذي بيده ملكوت كلّ شيء وإليه ترجعون). ومع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ "ملكوت" من أصل "ملك"- على وزن حكم- بمعنى الحكومة والمالكية، وإضافة (الواو) و (التاء) إليها للتأكيد والمبالغة، يتّضح أنّ معنى الآية كما يلي: إنّ الحاكمية والمالكية المطلقة بدون أدنى قيد أو شرط بيد قدرته المطلقة، وكذلك فإنّ الله سبحانه منزّه ومبرّأ عن أي عجز أو نقص في القدرة، وبهذا الشكل فإنّ إحياء الموتى وإلباس العظام المتفسّخة لباس الحياة من جديد، كلّ ذلك لن يشكّل لديه أيّة مشكلة، ولذلك فاعلموا يقيناً أنّكم إليه ترجعون وأنّ المعاد حقّ. بحوث لقد تقدّمت منّا الوعود بأن نتعرّض لبحث مركّز في مسألة المعاد في ختام سورة (يس) وها نحن نفي بهذه الوعود ونشبع هذه المسألة بحثاً من خلال ستّة مباحث لنعرضها للقرّاء الأعزّاء كما يلي: 1- الإعتقاد بالمعاد أمر فطري: إذا كان الإنسان قد خلق للفناء فيجب أن يكون عاشقاً للفناء، وأن يلتذّ بنهاية عمره وبموته في حين أنّنا نرى أنّ الموت بمعنى الفناء لم يكن سارّاً للإنسان في أي وقت، وهو يفرّ منه بكلّ وجوده. إنّ السعي لإبقاء أجسام الموتى عن طريق التحنيط، وبناء المقابر الخالدة كأهرام مصر، والجري وراء ما يسمّى بماء الحياة ودواء الشباب وما يطيل العمر، كلّ ذلك دليل على عشق الإنسان لمفهوم البقاء. فإذا كنّا قد خلقنا للفناء فما معنى حبّ البقاء سوى أنّها علاقة شاغلة بلا جدوى ولا فائدة. لا تنسوا أنّنا نتابع البحث في مسألة المعاد بعد الإتّفاق على الإعتقاد بوجود الله الحكيم العالم، ونحن نعتقد بأنّ كلّ ما خلقه الله سبحانه وتعالى في وجودنا إنّما هو وفقاً لحساب وغرض، وبناءاً عليه فإنّ عشق البقاء لابدّ أن يكون له حساب خاصّ، منسجم مع الخلق والعالم بعد الدنيا. وبتعبير آخر: فلو أنّ نظام الخلق أوجد فينا عطشاً. فإنّ ذلك دليل على أنّ للماء وجوداً في العالم الخارجي، كذلك فإنّ وجود الغريزة الجنسية والميل إلى الجنس الآخر يدلّل على وجود الجنس الآخر في العالم الخارجي، وإلاّ فإنّ الإنجذاب بدون أن يكون له مدلول وموضوع خارجي لا يتّفق مع حكمة الخلق. ومن جهة اُخرى فعندما نبحث في التأريخ البشري منذ أيّام نشأة ذلك التأريخ فإنّنا نجد دلائل كثيرة على الإعتقاد الراسخ لدى الإنسان بالحياة بعد الموت. فالآثار التي وصلت إلينا من البشر الغابرين- وحتّى إنسان ما قبل التأريخ- وبالأخصّ طريقة دفن الموتى، وكيفية بناء القبور، وحتّى دفن الأشياء المختلفة مع الموتى، كلّها دليل على ما ترسّخ في وجدانهم من الإعتقاد بالحياة بعد الموت. "صاموئيل كنيك" أحد علماء النفس المعروفين يقول: "إنّ التحقيقات الدقيقة تشير إلى أنّ المجموعات البشرية الاُولى على سطح الأرض، كانت لهم إعتقادات معيّنة، لأنّهم كانوا يلحدون موتاهم بطريقة معيّنة في الأرض، ويضعون معهم وسائل وآلات أعمالهم التي كانوا يمارسونها قبل الموت إلى جانبهم، وبهذه الطريقة فإنّهم يثبتون إعتقادهم بوجود عالم ما بعد الموت"(5). فهؤلاء اعتقدوا بالحياة بعد الموت، وإن كانوا قد سلكوا طريقاً خاطئاً في إعتقادهم كتوهّمهم أنّ تلك الحياة شبيهة بهذه الحياة تماماً. على كلّ حال، فلا يمكن قبول أنّ ذلك الإعتقاد القديم مجرّد وهم أو نتيجة للتلقين والعادة. ومن جهة ثالثة، فإنّ وجود محكمة "الوجدان"، دليل آخر على فطرية الإعتقاد بالمعاد. فكلّ إنسان عندما ينجز عملا حسناً فإنّه يستشعر في أعماقه وفي وجدانه الطمأنينة التي لا يمكن أحياناً وصفها بأي بيان أو كلام. وعلى العكس عندما يرتكب الذنوب وخصوصاً الجنايات الكبرى، فإنّه يستشعر عدم الراحة، إلى حد تصل الحالة في البعض إلى الإنتحار، أو يسلّموا أنفسهم إلى المحاكم لنيل العقاب والتعلّق على أعواد المشانق. كلّ ذلك دليل على عذاب الضمير والوجدان. وللإنسان أن يسأل نفسه: كيف يمكن أن يكون عالم صغير كعالم النفس له تلك المحكمة، ولا يكون لهذا العالم العظيم مثل هذا الوجدان وهذه المحكمة؟! وبهذا الشكل يتّضح أنّ الإعتقاد بمسألة المعاد والحياة بعد الموت أمر فطري، ومن عدّة طرق: من طريق العشق البشري العام للبقاء. ومن طريق وجود ذلك الإعتقاد بالحياة بعد الموت على طول التأريخ البشري. ومن طريق وجود النموذج المصغّر لها في داخل الإنسان. 2- أثر الإعتقاد بالمعاد على حياة البشر: إنّ الإعتقاد بعالم ما بعد الموت وبقاء آثار الأعمال البشرية، وخلود الأعمال- سواء كانت خيراً أو شرّاً- يترك أثره العميق على فكر وأعصاب وجسد الإنسان، ويمكنه أن يكون عاملا مؤثّراً في التشجيع على الأعمال الحسنة. إنّ تأثير الإيمان بالحياة بعد الموت في إصلاح الأفراد الفاسدين والمنحرفين وتشجيع الأفراد المضحّين والمجاهدين، أكثر بكثير من تأثير المحاكم والعقوبات المعمول بها عادةً في الدنيا، للمزايا التي يتمتّع بها ذلك الإيمان عن المحاكم العادية، ففي محكمة المعاد لا وجود لإعادة النظر، ولا أثر للإضطهاد الفكري على صاحبها، ولا فائدة من إعطاء وثائق كاذبة ومزوّرة، ولا تستغرق- عبر روتينها- مدّة من الزمن. القرآن الكريم يقول: (واتّقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون).(6) كذلك يقول تعالى: (ولو أنّ لكلّ نفس ظلمت ما في الأرض لأفتدت به وأسرّوا الندامة لمّا رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون).(7) كذلك قوله تعالى: (ليجزي الله كلّ نفس ما كسبت إنّ الله سريع الحساب).(8) وإنّ حسابه تعالى سريع وحاسم كما نقلت بعض الروايات: "إنّ الله تعالى يحاسب الخلائق كلّها في مقدار لمح البصر"(9). ولهذا السبب فقد اعتبر القرآن الكريم أنّ سبب الكثير من الذنوب هو نسيان يوم الجزاء، فقال تعالى: (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا).(10) حتّى أنّه يستفاد من بعض الآيات أنّ الإنسان إذا كان معتقداً بالقيامة فإنّه يمتنع عن القيام بالكثير من الأعمال المخالفة، فقد ورد في وصفه تعالى لمن يُخسرون الميزان في البيع قوله تعالى: (ألا يظنّ اُولئك أنّهم مبعوثون ليوم عظيم).(11) والحماسة الخالدة لمجاهدي الإسلام سابقاً وحاضراً في ميادين الجهاد، والتضحية والفداء والإيثار الذي يظهره الكثير من المسلمين في الدفاع عن بلدان الإسلام وعن المحرومين والمستضعفين، يدلّل على أنّه بجميعه إنعكاس لحالة الإعتقاد بالحياة الخالدة في الدار الآخرة، وقد دلّت الدراسات من قبل المفكّرين، والتجارب المختلفة على أنّ تلك المظاهر لا يمكن أن تكون- في المقياس الواسع الشامل- إلاّ عن طريق العقيدة بالحياة بعد الموت. فإنّ المجاهد الذي منطقه (قل هل تربّصون بنا إلاّ إحدى الحسنيين).(12) أي الوصول إلى إحدى السعادتين إمّا النصر أو الشهادة، وهو قطعاً مجاهد لا يقبل الهزيمة. إنّ الموت الذي يبعث على الوحشة لدى كثير من الناس، وحتّى أنّهم يحاذرون من ذكر إسمه أو كلّ ما يذكّر به، ليس موحشاً ولا قبيحاً قطّ بالنسبة إلى المعتقدين بالحياة بعد الموت، بل إنّه بالنسبة إليهم نافذة على عالم رحيب، وتحطّم القفص الدنيوي وكسر القيود المادّية التي تأسر الروح، وبلوغ الحريّة المطلقة. إنّ مسألة المعاد تعتبر الخطّ الفاصل بين الإلهيين والماديّين، لوجود نظرتين مختلفتين هنا: فالمادّي يرى الموت فناءً مطلقاً، ويفرّ منه بكلّ وجوده، لأنّ كلّ شيء سينتهي به. والإلهي يرى الموت ولادة جديدة، وولوجاً في عالم واسع كبير مشرق، والإنطلاق في السماء اللامحدودة. ومن الطبيعي فإنّ المعتقدين بهذا المذهب لا يفسحون المجال للخوف والوحشة للدخول إلى أنفسهم عند سلوكهم طريق الموت والشهادة. بل إنّهم يستلهمون من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام) "والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي اُمّه"(13) ويستقبلون الموت في سبيل الهدف برحابة صدر. ولهذا فإنّ أمير المؤمنين حينما تلقّى الضربة السامّة من اللعين الخاسر "عبدالرحمن بن ملجم" لم يقل سوى "فزت وربّ الكعبة". خلاصة القول: فإنّ الإيمان بالمعاد يجعل من الإنسان الخائف الضائع، إنساناً شجاعاً شهماً هادفاً، تمتلىء حياته بالحماسة والتضحية والصدق والتقوى. 3- الدلائل العقليّة على المعاد: فضلا عن الدلائل النقلية الكثيرة على المعاد سواء الواردة في القرآن المجيد، والتي تشمل مئات الآيات بهذا الخصوص، فإنّ هناك أدلّة عقليّة واضحة أيضاً على هذه المسألة، والتي نحاول ذكرها هنا بشكل مختصر: أ- برهان الحكمة: إذا نظرنا إلى هذا العالم بدون العالم الآخر، فسيكون فارغاً وبلا معنى تماماً، كما لو افترضنا بوجود الحياة في الأطوار الجنينية بدون الحياة في هذه الدنيا. فلو كان قانون الخلق يقضي بأنّ جميع المواليد الجدد يختنقون بمجرّد نزولهم من بطون اُمّهاتهم ويموتون، فإنّ الدور الجنيني سيكون بلا معنى؟ كذلك لو كانت الحياة في هذا العالم مبتورة عن الحياة في العالم الآخر، فسنواجه نفس الإضطراب والحيرة، فما ضرورة أن نعيش سبعين عاماً أو أكثر أو أقل في هذه الدنيا وسط كلّ هذه المشكلات؟ فنبدأ الحياة ونحن لا نملك تجربة معيّنة، وحين بلوغ تلك المرتبة يهجم الموت وينتهي العمر .. نسعى مدّة لتحصيل العلم والمعرفة، وحينما نبلغ درجة منه بعد إشتعال الرأس شيباً يستقبلنا الموت. ثمّ لأجل ماذا نعيش؟ الأكل واللبس والنوم والإستيقاظ المتكرّر يومياً، وإستمرار هذا البرنامج المتعب لعشرات السنين، لماذا؟ فهل حقّاً إنّ هذه السماء المترامية الأطراف وهذه الأرض الواسعة، وكلّ هذه المقدّمات والمؤخّرات وكلّ هؤلاء الأساتذة والمعلّمين والمربّين وكلّ هذه المكتبات الضخمة وكلّ هذه الاُمور الدقيقة والأعمال التي تداخلت في خلقنا وخلق باقي الموجودات، كلّ ذلك لمجرّد الأكل والشرب واللبس والحياة المادية هذه؟ هنا يعترف الذين لا يعتقدون بالمعاد بتفاهة هذه الحياة، ويقدم بعضهم على الإنتحار للتخلّص من هذه الحياة الخاوية، بل قد يفتخر به. وكيف يمكن لمن يؤمن بالله وبحكمته المتعالية أن يعتبر هذه الحياة الدنيا وحدها بدون إرتباطها بحياة اُخرى ذات قيمة وذات شأن؟ يقول تعالى: (أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثاً وأنّكم إلينا لا ترجعون).(14) أيّ أنّه لو لم يكن رجوع بعد هذه الدنيا إلى الله، فإنّ الحياة في هذه الدنيا ليست سوى عبث في عبث. نعم فإنّ الحياة في هذه الدنيا تجد معناها ويكون لها مفهوماً ينسجم مع حكمة الله سبحانه وتعالى عندما تعتبر هذه: "الدنيا مزرعة للآخرة" و "الدنيا قنطرة" ومكان تعلّم، وجامعة للإستعداد للعالم الآخر ومتجر لذلك العالم، تماماً كما يقول أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) في كلماته العميقة المعنى "إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عاقبة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها، مسجد أحبّاء الله، ومصلّى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله"(15). خلاصة القول، إنّ الفحص والمطالعة في وضع هذا العالم يؤدّي إلى الإعتقاد بعالم آخر وراء هذا العالم (ولقد علمتم النشأة الاُولى فلولا تذكّرون).(16) ب- برهان العدالة: التدقيق في نظام الوجود وقوانين الخلق، يستنتج منه أنّ كلّ شيء منها محسوب بدقّة متناهية. ففي مؤسسة البدن البشري، يحكم نظام عادل دقيق، بحيث أنّه لو تعرّض لأدنى تغيير أو عارض ما لأدّى إلى إصابته بالمرض أو حتّى الموت، حركات القلب، دوران الدم، أجفان العين، وكلّ جزء من خلايا الجسم البشري مشمول بهذا النظام الدقيق، الذي يحكم العالم بأسره "وبالعدل قامت السموات والأرض"(17) فهل يستطيع الإنسان أن يكون وحده النغمة النشاز في هذا العالم الواسع؟! صحيح أنّ الله سبحانه وتعالى أعطى للإنسان بعض الحرية في الإرادة والإختيار لكي يمتحنه ولكي يتكامل في ظلّ تلك الحرية ويطوي مسير تكامله بنفسه، ولكن إذا أساء الإنسان الإستفادة من تلك الحرية فماذا سيكون؟! ولو أنّ الظالمين الضالّين المضلّين بسوء إستفادتهم من هذه الموهبة الإلهية استمرّوا على مسيرهم الخاطىء فماذا يقتضي العدل الإلهي؟! وصحيح أنّ بعضاً من المسيئين يعاقبون في هذه الدنيا ويلقون مصير أعمالهم- على الأقل قسم منهم- ولكن المسلّم أنّ جميعهم لا ينال جميع ما يستحقّ. كما أنّ جميع المحسنين الأطياب لا يتلقّون جزاء أعمالهم الطيّبة في الدنيا، فهل من الممكن أن تكون كلا المجموعتين في كفّة عدالة الله سواء؟! ويقول القرآن الكريم: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون).(18) وفي موضع آخر يقول تعالى: (أم نجعل المتّقين كالفجّار).(19) على كلّ حال، فلا شكّ في تفاوت الناس وإطاعة أوامر الله سبحانه وتعالى، كما أنّ محاكم "القصاص والثواب الدنيوية" و "محكمة الوجدان" و "الآثار الوضعية للذنوب" كلّ ذلك لا يكفي لإقرار العدالة على ما يبدو، وعليه يجب القبول بأنّه لأجل إجراء العدالة الإلهية يلزم وجود محكمة عدل عامّة تراعي بدقّة الخير أو الشرّ في حساباتها، وإلاّ فإنّ أصل العدالة لا يمكن تأمينه أبداً. وبناءً على ما تقدّم يجب الإقرار بأنّ قبول العدل الإلهي مساو بالضرورة لوجود المعاد والقيامة، القرآن الكريم يقول: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة).(20) ويقول: (وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون).(21) ج- برهان الهدف: على خلاف ما يتوهّمه المادّيون، فإنّ الإلهيين يرون أنّ هناك هدفاً من خلق الإنسان، والذي يعبّر عنه الفلاسفة بـ "التكامل" وفي لسان القرآن والحديث فهو "القرب إلى الله" أو "العبادة" (وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون).(22) فهل يمكن تحقيق هذا الهدف إذا كان الموت نهاية لكلّ شيء؟! يجب أن يكون عالم بعد هذا العالم ويستمرّ فيه سير الإنسان التكاملي، وهناك يحصد ما زرع في هذا العالم، وكما قلنا في موضع آخر فإنّه في ذلك العالم الآخر يستمرّ سير الإنسان التكاملي ليبلغ هدفه النهائي. الخلاصة: أنّ تحقيق الهدف من الخلق لا يمكن بدون الإعتقاد بالمعاد، وإذا قطعنا الإرتباط بين هذا العالم وعالم ما بعد الموت، فكلّ شيء سيتحوّل إلى ألغاز، وسوف نفقد الجواب على الكثير من التساؤلات. د- برهان نفي الإختلاف: لا شكّ أنّنا جميعاً نتعذّب كثيراً من الإختلافات بين المذاهب والعقائد في هذا العالم، وكلّنا نتمنّى أن تحلّ هذه الإختلافات، في حين أنّ جميع القرائن تدلّل على أنّ هذه الإختلافات هي من طبيعة الحياة. ويستفاد من عدّة دلائل بأنّه حتّى بعد قيام المهدي (ع)- وهو المقيم لحكومة العدل العالمية والمزيل لكثير من الإختلافات- ستبقى بعض الإختلافات العقائدية بلا حلّ تامّ، وكما يقول القرآن الكريم فإنّ اليهود والنصارى سيبقون على إختلافاتهم إلى قيام القيامة: (فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة).(23) ولكن الله سبحانه وتعالى الذي يقود كلّ شيء باتّجاه الوحدة سينهي تلك الإختلافات حتماً، ولوجود الحجب الكثيفة لعالم المادّة في الدنيا فإنّه لا يمكن حلّ هذا الأمر بشكل كامل فيها، ونعلم أنّ العالم الآخر هو عالم الظهور والإنكشاف، إذن فنهاية هذه المسألة ستكون نهاية عملية، وستكون الحقائق جلية واضحة إلى درجة أنّ الإختلافات العقائدية ستحلّ بشكل نهائي تامّ. الجميل أنّه تمّ التأكيد في آيات متعدّدة من القرآن الكريم على هذه المسألة، يقول تعالى في الآية (113) من سورة البقرة: (فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) وفي الآيات (38) و39) من سورة النحل يقول تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعداً عليه حقّاً ولكن أكثر الناس لا يعلمون ليبيّن لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنّهم كانوا كاذبين). 4- القرآن ومسألة المعاد: تعتبر مسألة المعاد المسألة الثانية بعد مسألة التوحيد والتي تعتبر المسألة الأساس في تعليمات الأنبياء بخصائصها وآثارها التربوية، لذا ففي بحوث القرآن الكريم نجد أنّ أكثر الآيات اختّصت ببحث مسألة المعاد، بعد الكثرة الكاثرة التي اختّصت ببحث مسألة التوحيد. والمباحث القرآنية حول المعاد تارةً تكون بشكل إستدلالات منطقية، واُخرى بشكل بحوث خطابية وتلقينية شديدة الوقع بحيث أنّ سماعها في بعض الأحيان يؤدّي إلى قشعريرة شديدة في البدن بأسره. والكلام الصادق- كالإستدلالات المنطقية- ينفذ إلى أعماق الروح الإنسانية. في القسم الأوّل، أي الإستدلالات المنطقية، فإنّ القرآن الكريم يؤكّد كثيراً على موضوع إمكانية المعاد، إذ أنّ منكري المعاد غالباً ما يتوهّمون إستحالته، ويعتقدون بعدم إمكانية المعاد بصورة معاد جسماني يستلزم عودة الأجسام المهترئة والتراب إلى الحياة مرّة اُخرى. ففي هذا القسم، يلج القرآن الكريم طرقاً متنوعة ومتفاوتة تلتقي كلّها في نقطة واحدة، وهي مسألة "الإمكان العقلي للمعاد". فتارةً يجسّد للإنسان النشأة الاُولى، وبعبارة وجيزة ومعبّرة واضحة تقول الآية: (كما بدأكم تعودون).(24) وتارةً يجسّد حياة وموت النبات، وبعثه الذي نراه باُمّ أعيننا كلّ عام، وفي الختام يقول إنّ بعثكم تماماً كالنبات: (ونزّلنا من السماء ماءً مباركاً وأنبتنا به جنّات وحب الحصيد ... وأحيينا به بلدةً ميتاً كذلك الخروج).(25) وفي موضع آخر يقول تعالى: (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور).(26) وحيناً يطرح مسألة قدرة الله سبحانه وتعالى على خلق السموات والأرض فيقول: (أو لم يروا أنّ الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهنّ بقادر على على أن يحيي الموتى بلى إنّه على كلّ شيء قدير).(27) وحيناً آخر يعرض عملية إنبعاث الطاقة وإشتعال الشجر الأخضر كنموذج على قدرته، وجعل النار في قلب الماء فيقول: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً).(28) وتارةً يجسّد أمام ناظري الإنسان الحياة الجنينية فيقول: (ياأيّها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنّا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة مخلّقة وغير مخلّقة لنبيّن لكم ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى ثمّ نخرجكم طفلا).(29) وأخيراً فإنّ القرآن تارةً يدلّل على البعث بالنوم الطويل- النوم الذي هو قرين الموت وأخوه، بل إنّه الموت بعينه من بعض الجوانب- كنوم أصحاب الكهف الذي استمر ثلاثمائة وتسع سنين، وبعد تفصيل جميل حول النوم واليقظة يقول: (وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أنّ وعد الله حقّ وأنّ الساعة لا ريب فيها).(30) تلك هي الأساليب الستّة المختلفة التي طرحتها آيات القرآن الكريم لبيان إمكانية المعاد. علاوةً على قصّة إبراهيم (ع) والطيور الأربعة (البقرة- 260) وقصّة عزير (البقرة- 259) وقصّة الشهادة من بني إسرائيل (البقرة- 73)، والتي تشكّل كلّ واحدة منها نموذجاً تأريخياً على هذه المسألة وهي من الشواهد والدلائل الاُخرى التي ذكرها القرآن بهذا الخصوص. خلاصة القول، إنّ ما يعرضه القرآن الكريم عن المعاد ومظاهره المختلفة ومعلوماته ونتائجه، والدلائل الرفيعة التي يطرحها بهذا الخصوص، حيّة ومقنعة بحيث أنّ أيّ إنسان إذا كان لديه ذرّة من الوجدان فإنّه يتأثّر بعمق ما يطرحه القرآن الكريم. وعلى قول البعض: فإنّ ألفاً ومائتي آية من القرآن الكريم تبحث في مسألة المعاد، لو جمعت وفسّرت لأصبحت وحدها كتاباً ضخماً. 5- المعاد الجسماني: المقصود من المعاد الجسماني ليس إعادة الجسم وحده في العالم الآخر، بل إنّ الهدف هو بعث الروح والجسم معاً، وبتعبير آخر فإنّ عودة الروح أمر مسلّم به، والحديث حول عودة الجسم. جمع من الفلاسفة القدماء كانوا يعتقدون بالمعاد الروحي فقط، وينظرون إلى الجسد على أنّه مركّب، يكون مع الإنسان في هذه الدنيا فقط، وبعد الموت يصبح الإنسان غير محتاج إليه فينزل الجسد ويندفع نحو عالم الأرواح. ولكن العلماء المسلمين الكبار يعتقدون بأنّ المعاد يشمل الروح والجسم، وهنا لا يقيّد البعض بعودة الجسم السابق، ويقولون بأنّ الله قيّض للروح جسداً، ولكن شخصيّة الإنسان بروحه فإنّ هذا الجسد يعدّ جسده. في حال أنّ المحقّقين يعتقدون بأنّ هذا الجسد الذي يصبح تراباً ويتلاشى، يتلبّس بالحياة مرّة اُخرى بأمر الله الذي يجمعه ويكسوه بالحياة، هذه العقيدة نابعة من متون الآيات القرآنية الكريمة. إنّ الشواهد على المعاد الجسماني في الآيات القرآنية الكريمة كثيرة جدّاً، بحيث يمكن القول قطعاً بأنّ الذين يعتقدون بإقتصار المعاد على المعاد الروحي فقط لا يملكون أدنى إطّلاع على الآيات العديدة التي تبحث في موضوع المعاد، وإلاّ فإنّ جسمانية المعاد واضحة في الآيات القرآنية إلى درجة تنفي أدنى شكّ في هذه المسألة. فهذه الآيات التي قرأناها في آخر سورة يس، توضّح هذه الحقيقة حيث حينما تساءل الإنسان: (قال من يحيي العظام وهي رميم) أجابه القرآن بصراحة ووضوح: (قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة). إنّ كلّ تعجّب المشركين والمخالفين لمسألة المعاد هو هذه القضيّة، وهي كيف يمكن إحياؤنا بعد الموت وبعد أن نصبح تراباً متناثراً وضائعاً في هذه الأرض؟ (وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنّا لفي خلق جديد).(31) إنّهم يقولون: (أيعدكم أنّكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنّكم مخرجون).(32) وتعجّبوا من هذه المسألة إلى درجة أنّهم اعتبروا إظهارها دليلا على الجنون أو الكذب على الله (قال الذين كفروا هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مزّقتم كلّ ممزّق إنّكم لفي خلق جديد).(33) لهذا السبب فإنّ إستدلالات القرآن الكريم حول إمكانية المعاد عموماً تدور حول هذا المحور وهو "المعاد الجسماني" وما عرضناه في الفصل السابق في ستّة طرق كانت دليلا وشاهداً على هذا الإدّعاء. علاوةً على أنّ القرآن الكريم يذكر مراراً وتكراراً بأنّكم ستخرجون يوم القيامة من قبوركم والقبور مرتبطة بالمعاد الجسماني. والأوصاف الت? ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ بقدرته عليه ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ في الآخرة فيجازي كلا بعمله.