لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
الثانية: (فالزاجرات زجراً). الثالثة: (فالتاليات ذكراً). فمن هي تلك الطوائف الثلاث؟ وعلى من أطلقت تلك الصفات؟ وما الهدف النهائي منها؟ المفسّرون قالوا الكثير بهذا الشأن، إلاّ أنّ المعروف والمشهور هو أنّ هذه الصفات تخصّ طوائف من الملائكة... طوائف اصطفّت في عالم الوجود بصفوف منظمة، وهي مستعدّة لتنفيذ الأمر الإلهي. وطوائف من الملائكة تزجر بني آدم عن إرتكاب المعاصي والذنوب، وتحبط وساوس الشياطين في قلوبهم. أو الملائكة الموكّلة بتسيير السحاب في السماء وسوقها نحو الأرض اليابسة لإحيائها. وأخيراً طوائف من الملائكة تتلو آيات الكتب السماوية حين نزول الوحي على الرسل(2). وممّا يلفت النظر أنّ "الصافات" هي جمع كلمة "صافّة" وهي بدورها تحمل صفة الجمع أيضاً، وتشير إلى مجموعة مصطفّة، إذن فـ "الصافات" تعني الصفوف المتعدّدة(3). وأمّا كلمة "الزاجرات" فإنّها مأخوذة من (الزجر) ويعني الصرف عن الشيء بالتخويف والصراخ، وبمعنى أوسع فإنّها تشمل كلّ منع وطرد وزجر للآخرين. إذن فالزاجرات تعني مجاميع مهمّتها نهي وصرف وزجر الآخرين. و "التاليات" من (التلاوة) وهي جمع كلمة (تال) وتعني طوائف مهمّتها تلاوة شيء ما(4). ونظراً لكثرة وإتّساع مفاهيم هذه الألفاظ، فليس من العجب أن يطرح المفسّرون تفاسير مختلفة لها دون أن يناقض بعضها الآخر، بل من الممكن أيضاً أن تجتمع لتوضيح مفهوم هذه الآيات، فمثلا المقصود من كلمة "الصافات" هو صفوف الملائكة المستعدّة لتنفيذ الأوامر الإلهيّة في عالم الخلق، أو الملائكة النازلون بالوحي إلى الأنبياء في عالم التشريع، وكذلك صفوف المقاتلين والمجاهدين في سبيل الله، أو صفوف المصلّين والعباد. رغم أنّ القرائن تشير إلى أنّ المراد من كلمة "الصافات" هو الملائكة، إضافةً إلى أنّ بعض الروايات قد أشارت إلى ذلك المعنى(5). وليس هناك أي مانع من أن تشمل كلمة "الزاجرات" الملائكة الذين يطردون وساوس الشياطين من قلوب بني آدم، والإنسان الذي يؤدّي واجب النهي عن المنكر. و "التاليات" إشارة إلى كلّ الملائكة والجماعات المؤمنة التي تتلو آيات الله، وتلهج بذكره تبارك وتعالى على الدوام. هنا يطرح هذا السؤال: ظاهر هذه الآيات- وبمقتضى وجود العطف بحرف (الفاء) بين الجمل الثلاث- يبيّن أنّ الطوائف الثلاث جاءت الواحدة بعد الاُخرى، فهل أنّ هذا الترتيب جاء بحكم الواجب المترتّب على كلّ طائفة؟ أم كلّ حسب مقامه؟ أم لكلا الأمرين؟ من الواضح أنّ الإصطفاف والإستعداد قد جاءا كمرحلة اُولى، ثمّ جاءت- كمرحلة ثانية- عملية إزالة العراقيل من الطريق. أمّا إعلان الأوامر وتنفيذها فقد كانت بمثابة المرحلة الثالثة. ومن جهة اُخرى فإنّ المستعدّين لتنفيذ الأوامر الإلهيّة لهم مرتبة، والذين يزيلون العراقيل لهم مرتبة أعلى، أمّا الذين يتلون الأوامر وينفّذونها فلهم مرتبة أسمى من الجميع. على أيّة حال فإنّ قسم الله سبحانه وتعالى بتلك الطوائف يوضّح عظم منزلتهم عند الباري عزّوجلّ، ويشير إلى حقيقة مفادها أنّ سالكي طريق الحقّ عليهم للوصول إلى غايتهم أن يجتازوا تلك المراحل الثلاث والتي تبدأ بتنظيم الصفوف ووقوف كلّ مجموعة في الصفّ المخصّص لها، ومن ثمّ العمل على إزالة العراقيل من الطريق، ورفع الموانع بالصوت العالي، الصوت الذي يتناسب مع مفهوم الزجر، ومن بعد تلاوة الآيات الإلهيّة والأوامر الربّانية على القلوب المتهيّئة لتنفيذ مضامين تلك الأوامر. فالمجاهدون السالكون لطريق الحقّ ليس أمامهم من سبيل سوى إجتياز تلك المراحل الثلاث، وبنفس الصورة على العلماء العاملين أن يستوحوا في جهودهم الجماعية ذلك البرنامج. وممّا يذكر أنّ بعض المفسّرين فسّروا الآيات على أنّها تعود على المجاهدين، والبعض الآخر أكّد عودتها على العلماء، ولكن حصر مفهوم الآيات بالمجاهدين والعلماء فقط مستبعد بعض الشيء، وإن اُعطيت الآيات طابعاً عامّاً فإنّها ستكون أقرب للواقع، وإذا اعتبرناها تخصّ الملائكة فإنّ الآخرين يمكنهم تنظيم حياتهم وفق مناهج الملائكة. أمير المؤمنين علي (ع) عندما يصف بخطبته في نهج البلاغة الملائكة، فإنّه يقسّمهم إلى مجموعات مختلفة، ويقول: "وصافون لا يتزايلون، ومسبّحون لا يسأمون، لا يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان، ولا غفلة النسيان، ومنهم اُمناء على وحيه، وألسنة إلى رسله"(6). أمّا آخر حديثنا عن الآيات الثلاث هذه، فهو أنّ البعض يعتقد بأنّ القسم في هذه الآيات يعود إلى ذات الله، وكلمة (ربّ) مقدّرة في جميع تلك الآيات، حيث يكون المعنى كالتالي: وربّ الصافات صفّاً، وربّ الزاجرات زجراً، وربّ التاليات ذكراً. والذين فسّروا الآيات على هذا النحو، فالظاهر أنّهم يعتقدون بأنّ العباد لا يحقّ لهم القسم بغير الله، لذا فإنّ الله لا يقسم إلاّ بذاته، إضافةً إلى أنّ القسم يجب أن يكون بشيء مهمّ، ألا وهو ذات الله المقدّسة. إلاّ أنّ هؤلاء غفلوا عن هذه الحقيقة، وهي أنّ حساب الله لا علاقة له بالعباد، فالله تعالى- من أجل توجيه الإنسان- يقسم بآيات "الآفاق" و "الأنفس" ودلائل قدرته في الأرض والسماء، وذلك لكي يتفكّر الإنسان بتلك الآيات، وعن طريقها يعرف ربّه. وجدير بالذكر أنّ بعض آيات القرآن المجيد، ومنها آيات سورة الشمس تقسم بموجودات الكون إلى جانب القسم بذات الله المقدّسة، إذن فالتقدير هنا غير سديد، إذ يقول القرآن الكريم: (والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سوّاها)(7). على أيّة حال، فإنّ ظاهر الآيات- محلّ البحث- يدلّ على أنّ المجموعات الثلاث هي المقسم بها، وتقدير الشيء هنا خلاف للظاهر، ولا يمكن قبوله بغير دليل. الآن نرى ما هو المراد من هذه الأقسام المفعمة بالمعاني، أي القسم بالملائكة والإنس؟ ﴿فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا﴾ لكتب الله أو القرآن أو آلائه وأحكامه.