بعد إعتذاره تركوه وأسرعوا لتأدية مراسمهم (فتولّوا عنه مدبرين).
وهنا يطرح سؤالان.
الأوّل: لماذا نظر إبراهيم (ع) في النجوم، وما هو هدفه من هذه النظرة؟
والثاني: هل أنّه كان مريضاً حقّاً حينما قال: إنّني مريض؟ وما هو مرضه؟
جواب السؤال الأوّل، مع أخذ إعتقادات أهل بابل وعاداتهم بنظر الإعتبار، يتّضح أنّهم كانوا يستقرئون النجوم، وحتّى أنّهم كانوا يقولون بأنّ أصنامهم كانت هياكل النجوم على الأرض، ولهذا السبب فإنّهم يكنّون لها الإحترام لكونها تمثّل النجوم.
وبالطبع فإلى جانب إستقرائهم للنجوم، كانت هناك خرافات كثيرة في هذا المجال شائعة في أوساطهم، منها أنّهم كانوا يعتبرون النجوم تؤثّر على حظوظهم، وكانوا يطلبون منها الخير والبركة، كما كانوا يستدلّون بها على الحوادث المستقبلية.
ولكي يوهمهم إبراهيم (ع) بأنّه يقول بمثل قولهم، نظر إلى السماء وقال حينذاك: إنّي سقيم، فتركوه ظنّاً منهم أنّ نجمه يدلّ على سقمه.
أمّا بعض كبار المفسّرين، فقد احتملوا أنّه كان يريد من حركة النجوم تعيين الوقت الدقيق لمرضه، لأنّه كان مصاباً بحمى تعتريه في أوقات معيّنة، ولكن الإحتمال الأوّل يعدّ مناسباً أكثر، مع الأخذ بنظر الإعتبار معتقدات أهل بابل السائدة آنذاك.
فيما احتمل البعض الآخر أنّ نظره إلى السماء هو التفكّر في أسرار الخلق، رغم أنّهم كانوا يتصوّرون أنّ نظراته إلى السماء هي نظرات منجم يريد من خلال حركة النجوم توقّع الحوادث القادمة.
أمّا بخصوص السؤال الثاني فقد ذكروا أجوبة متعدّدة:
منها: أنّه كان مريضاً حقّاً، وحتّى إن لم يكن مريضاً فإنّه لن يشارك في مراسم عيدهم، فمرضه كان عذراً جيّداً لعدم مشاركته في تلك المراسم وفي نفس الوقت فرصة ذهبية لتحطيم الأصنام، ولا نمتلك دليلا يمكننا من القول بأنّه إستخدم التورية، كما أنّ إستخدام التورية من قبل الأنبياء يعدّ عملا غير مناسب.
وقال البعض الآخر: إنّ إبراهيم لم يكن مصاباً بمرض جسدي، وإنّما روحه متعبة، من جرّاء الممارسات التافهة لقومه وكفرهم وظلمهم وفسادهم، فبهذا أوضح لهم الحقيقة، رغم أنّهم تصوّروا شيئاً آخر، واعتقدوا أنّه يعاني من أمراض جسدية.
وإحتمل البعض أنّه إستخدم التورية في كلامه معهم، فمثلا يأتي شخص ويطرق باب البيت، ويستفسر: هل فلان موجود في البيت، فيأتيه الجواب: إنّه ليس هنا، والمراد من هنا هو خلف باب البيت وليس البيت كلّه، في حين أنّ السامع يفهم أنّه ليس موجوداً في البيت، (مثل هذه العبارات التي هي ليست بكذب وظاهرها يعطي مفهوماً آخر يطلق عليها في الفقيه اسم "التورية") ومقصود إبراهيم (ع) انّني يمكن أنّ أمرض في المستقبل، قال ذلك ليتخلّص منهم ويتركوه وحيداً.
ولكن التّفسير الأوّل والثاني أنسب حسب الظاهر.
وبهذه الطريقة بقي إبراهيم (ع) وحده في المدينة بعد أن تركها عبدة الأصنام متّوجهين إلى خارجها، فنظر إبراهيم حوله ونور الإشتياق لتحطيم الأصنام ظاهر في عينيه، إذ قربت اللحظات التي كان ينتظرها، وعليه أن يتحرّك لمحاربة الأصنام وإلحاق ضربة عنيفة بها، ضربة تهزّ العقول التافهة لعبدتها وتوقظهم.
﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾ هاربين خوفا من العدوى.