لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
أخيراً، ولد الطفل الموعود لإبراهيم وفق البشارة الإلهيّة، وأثلج قلب إبراهيم الذي كان ينتظر الولد الصالح لسنوات طوال، إجتاز الطفل مرحلة الطفولة وأضحى غلاماً. وهنا يقول القرآن: (فلمّا بلغ معه السعي). يعني أنّه وصل إلى مرحلة من العمر يستطيع فيها السعي وبذل الجهد مع والده في مختلف اُمور الحياة وإعانته على اُموره. وقال البعض: بأنّ (السعي) هنا يعني العمل لله والعبادة، وبالطبع فإنّ كلمة (السعي) لها مفاهيم ومعان واسعة تشمل هذا المعنى أيضاً، ولكنّها لا يقتصر معناها عليه. و (معه) تدلّ على أنّه كان يساعد والده في اُمور الحياة. على كلّ حال، فقد ذهب جمع من المفسّرين: إنّ عمر إسماعيل كان (13) عاماً حينما رأى إبراهيم ذلك المنام العجيب المحير، والذي يدلّ على بدء إمتحان عسير آخر لهذا النّبي ذي الشأن العظيم، إذ رأى في المنام أنّ الله يأمره بذبح إبنه الوحيد وقطع رأسه. فنهض من نومه مرعوباً، لأنّه يعلم أنّ ما يراه الأنبياء في نومهم هو حقيقة وليس من وساوس الشياطين، وقد تكرّرت رؤيته هذه ليلتين اُخريين، فكان هذا بمثابة تأكيد على ضرورة تنفيذ هذا الأمر فوراً. وقيل: إنّ أوّل رؤيا له كانت في ليلة التروية، أي ليلة الثامن من شهر ذي الحجّة، كما شاهد نفس الرؤيا في ليلة عرفة، وليلة عيد الأضحى، وبهذا لم يبق عنده أدنى شكّ في أنّ هذا الأمر هو من الله سبحانه وتعالى. إمتحان شاقّ آخر يمرّ على إبراهيم الآن، إبراهيم الذي نجح في كافّة الإمتحانات الصعبة السابقة وخرج منها مرفوع الرأس، الإمتحان الذي يفرض عليه وضع عواطف الاُبوّة جانباً والإمتثال لأوامر الله بذبح إبنه الذي كان ينتظره لفترة طويلة، وهو الآن غلام يافع قوي. ولكن قبل كلّ شيء، فكّر إبراهيم (ع) في إعداد إبنه لهذا الأمر، حيث (قال يابني إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك فانظر ماذا ترى). الولد الذي كان نسخة طبق الأصل من والده، والذي تعلم خلال فترة عمره القصيرة الصبر والثبات والإيمان في مدرسة والده، رحّب بالأمر الإلهي بصدر واسع وطيبة نفس، وبصراحة واضحة قال لوالده: (قال ياأبت افعل ما تؤمر). ولا تفكّر في أمري، فانّك (ستجدني إن شاء الله من الصابرين). فما أعظم كلمات الأب والإبن وكم تخفي في بواطنها من الاُمور الدقيقة والمعاني العميقة؟! فمن جهة، الأب يصارح ولده البالغ من العمر (13) عاماً بقضيّة الذبح، ويطلب منه إعطاء رأيه فيها، حيث جعله هنا شخصيّة مستقلّة حرّة الإرادة. فإبراهيم لم يقصد أبداً خداع ولده، ودعوته إلى ساحة الإمتحان العسير بصورة عمياء، بل رغب بإشراكه في هذا الجهاد الكبير ضدّ النفس، وجعله يستشعر حلاوة لذّة التسليم لأمر الله والرضى به، كما إستشعر حلاوتها هو. ومن جهة اُخرى، عمد الإبن إلى ترسيخ عزم وتصميم والده في تنفيذ ما أمر به، إذ لم يقل له: إذبحني، وإنّما قال له: افعل ما أنت مأمور به، فإنّني مستسلم لهذا الأمر، وخاصّة أنّه خاطب أباه بكلمة (ياأبت) كي يوضّح أنّ هذه القضيّة لا تقلّل من عاطفة الابن تجاه أبيه ولو بمقدار ذرّة، وأنّ أمر الله هو فوق كلّ شيء. ومن جهة ثالثة، أظهر أدباً رفيعاً اتّجاه الله سبحانه وتعالى، وأن لا يعتمد أحد على إيمانه وإرادته وتصميمه فقط، وإنّما يعتمد على إرادة ومشيئة الله، وبعبارة اُخرى: أن يطلب توفيق الإستعانة والإستقامة من الله. وبهذا الشكل يجتاز الأب وإبنه المرحلة الاُولى من هذا الإمتحان الصعب بإنتصار كامل. ماذا يدور في هذا الوسط؟ القرآن الكريم لم يفصل مجريات الحدث، وركّز فقط على النقاط الحسّاسة في هذه القصّة العجيبة. كتب البعض: إنّ إسماعيل ساعد والده في تنفيذ هذا الأمر الإلهي، وعمل على تقليل ألم وحزن والدته. فعندما أخذه والده للذبح وسط الجبال الجرداء والحارقة في أرض (منى) قال إسماعيل لوالده: ياأبت، أحكم من شدّ الحبل كي لا تتحرّك يدي ورجلي أثناء تنفيذك الأمر الإلهي، أخاف أن يقلّل ذلك من مقدار الجزاء الذي سأناله. والدي العزيز اشحذ السكّين جيّداً، وامرره بسرعة على رقبتي كي يكون تحمّل ألم الذبح سهلا بالنسبة لي ولك. والدي قبل ذبحي اخلع ثوبي من على جسدي كي لا يتلوّث بالدم، لأنّي أخاف أن تراه والدتي وتفقد عنان صبرها. ثمّ أضاف: أوصل سلامي إلى والدتي، وإن لم يكن هناك مانع أوصل ثوبي إليها كي يسلّي خواطرها ويهدّىء من آلامها، لأنّها ستشمّ رائحة إبنها منه، وكلّما أحسّت بضيق القلب، تضعه على صدرها ليخفّف الحرقة الموجودة في أعماقها. قربت اللحظات الحسّاسة، فالأمر الإلهي يجب أن ينفّذ، فعندما رأى إبراهيم (ع) درجة إستسلام ولده للأمر الإلهي إحتضنه وقبّل وجهه، وفي هذه اللحظة بكى الإثنان، البكاء الذي يبرز العواطف الإنسانية ومقدّمة الشوق للقاء الله. ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾ أي يسعى معه في أموره ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ من الرأي شاوره في أمر حتم ليوطن نفسه عليه فيهون ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ على بلاء الله.